قد يجد القارئ نفسه أمام العنوان الذي يقترحه المؤرّخ اللبناني سعدون حمادة لكتابه الجديد «الثورة الشيعية في لبنان» (دار النهار)، إزاء سؤال إشكالي: «هل خاض شيعة لبنان ثورة خاصة بهم؟». ولكن، فصلاً بعد فصل، يتكشّف للقارئ أنّ هذه الثورة التي يقتفيها ما هي إلاّ «القطبة» المخفية في تاريخ الثورة اللبنانية العامّة التي قامت في وجه الاستبداد العثماني، في شمال لبنان ولم تلبث أن امتدت إلى سائر أنحائه. إلا أنّ الكاتب اختار الثورة الشيعية عنواناً، بدلاً من اللبنانية، كردّ على التاريخ الكلاسيكي الذي دوّن الثورة اللبنانية، مُقصياً دور طائفة كانت لها مشاركتها البارزة في إحدى أهمّ محطّات لبنان المصيرية. في هذا الكتاب الضخم (538 صفحة)، يغوص سعدون حمادة في التاريخ اللبناني الملتبس، في الفترة العثمانية التي سبقت قيام لبنان الكبير، فيُضيء على جوانب مجهولة في التاريخ اللبناني، خصوصاً أنّ لبنان يفتقر إلى تاريخ موحّد ومُعتمد، إذ ينقسم اللبنانيون حول صدقيته لكون عملية التأريخ تمّت من وجهة نظر كاتبيه، علماً أنّ علم التاريخ يفترض في كلّ من يكتبه «أن تندثر رغباته كلّها وتختفي نفسه ذاتها ليعكس ما وقع في الماضي من دون أن يكون له أي تأثير فيه». من هنا، يُمكن القارئ أن يتساءل عن سبب اختيار المؤلّف التركيز على حركة طائفته الثورية دون غيرها من طوائف لبنان الكثيرة، إلاّ أنّ قراءة متأنية لهذه الدراسة تنفي عنها وعن مؤلفها تهمة الكتابة العاطفية التي تُميز عملية التأريخ الطوائفي. يوضح الكاتب في مقدّمة كتابه أنّ اهتمامه المُبكر بدراسة التاريخ اللبناني أثناء الحكم العثماني جعله منفتحاً على مختلف المصادر والمراجع التي اكتشف لاحقاً أنّها لا تعدو عن كونها «سرداً متقطّعاً ومشوّهاً لوقائع مهتزّة أُثبتت فقط لتخدم رواية موضوعة ومفترضة تصلح أساساً ومُنطلقاً لتمنيات أفرزتها أهواء وإيديولوجيات واصطفافات نسفت المنهج العام للتاريخ اللبناني من دون كبير اهتمام بما كان حقاً وواقعاً وموضوعاً». يأتي بحث سعدون حمادة في عمق الثورة اللبنانية ضدّ العثمانيين (1685-1710) - التي كان للشيعة فيها دور جوهري - في إطار الكشف عن حقيقة جهلها - أو تجاهلها - التاريخ اللبناني. هكذا، يروي حمادة بلغة تُزاوج بين الرهافة والوضوح، وبأسلوب يتسّم بالموضوعية والحصافة، تاريخ المشاركة الشيعية في حركات تمرّد اللبنانيين، على مدار القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الحكم العثماني في لبنان، والتي «لم تحظَ ولو بإشارة عابرة في المراجع الأم». يتطرّق المؤرّخ في بحثه إلى أصول الطائفة الشيعية ونظام الملّة وأماكن وجودها ومدنها وأصول العامليين والتراث الاجتماعي عندهم وعلاقاتهم الدولية والداخلية مع المعنيين والشهابيين وحركات أمرائها وعشائرها وزعمائها... من ثمّ يتوقّف عند بداية الثورة الشيعية في لبنان ضد العثمانيين الذين دخلوا معهم، منذ البداية، في عداء حاد: «لم تنظر الدولة إليهم كرعايا مثل غيرهم، ولا هم اعتبروها في أي وقت أنها دولتهم التي يدينون لها بالطاعة». يتكئ حمادة في دراسته على وثائقه العائلية والتاريخية، أو بالأحرى أرشيفه الذي جمعه على مدى عقود قضاها في البحث والتنقيب بغية رأب الصدع الذي يُعيب التاريخ اللبناني، بتغييب حركات محورية تعود لطائفة كبيرة في لبنان. وفي هذا الإطار، يقول المؤرّخ في الفصل الأول من الباب الخامس: «إنّ الذين تعمدوا تشويه تاريخ لبنان، ونسفوا صدقيته وجدّيته، وسكبوه في القالب الذي يرغبون ويتمنّون ويفترضون، من دون التقيّد بالأصول البديهية للبحث الموضوعي والتجرّد العلمي، استنبطوا نظريات مزاجية، وحاولوا إضفاء طابع الواقعية عليها، وذلك من طريق الاستعانة بتفاصيل، ووقائع ثانوية ومجتزأة، ثمّ قولبتها وسكبها بطريقة مصطنعة تصبّ في تقريب الفكرة المقصودة التي يُروّجون لها في الأذهان وتسهيل إمكان الاقتناع بها». (ص220). وهو يُرجع أيضاً تهميش الطائفة إلى الدولة العثمانية نفسها التي حرمت هذه الجماعة من اللبنانيين، بصفة خاصة، من أي امتيازات أو خصائص: «اعتمدت الدولة العثمانية التابعية المذهبية أساساً وحيداً لتصنيف رعاياها من دون اعتبار ذي شأن للجنس أو العرق أو القومية... ولم تنظر الدولة إليهم كرعايا مثل غيرهم» (ص17). تتوزّع فصول الكتاب على سبعة أبواب ويضم صوراً نادرة تساهم في توثيق معلومات المؤرّخ مثل: «وثيقة أملاك العشائر» (مع ختم وتوقيع نحو 200 عالم من جبل لبنان)، صور للمعارك التي خاضها الشيعة في صيدا وبنت جبيل ويارون وقبّ الياس، وخرائط قديمة لكسروان وجبل لبنان وجبل الدروز، وأخرى للمقاطعات الشيعية الثلاث ولإمارة بعلبك الشيعية، ولحصون جبل عامل مثل حصن هونين وحصن الشقيف وحصن تبنين... بالإضافة إلى صور للزعماء الشيعة وأملاكهم ووثائقهم وخصوصاً من آل حرفوش وآل حمادة... يُقدّم سعدون حمادة دراسة جديدة تُعيد لطائفة معينة مكانتها اللائقة في التاريخ الوطني، وتُعيد للتاريخ اللبناني نفسه وواقعيته وصدقيته. * مايا الحاج .