وفقاً لتقرير الزميل عائض عمران ونشرته جريدة "الحياة" ، عندما يستقر بك المقام في الطائف «المأنوس»، سينتهي بك التجوال سريعاً، متحولاً من علاماته المعروفة، إلى مواطن أخرى، لكل اسمٍ فيها حكاية. وادي النمل عنوانٌ لحي عشوائي، بيوته تهدم فجأة بمعاول الإزالة الحكومية، فلا يعجز أهلها عن إعادتها شامخةً من جديد بمرور أيام قليلة، تحول الحي العشوائي عقب شروع سكانه في هجره أخيراً، مستقرين في أحياء منظمة، إلى مقر لسكنى جاليات إفريقية، تغلبت على ظروفها وامتزجت في بوتقةٍ واحدة. «مصر الصغيرة» أو «جنة الأرض» هما الاسمان المرادفان لحي «بساتين المثناه»، لم يتبق منها سوى مساحات متواضعة، يحيطها هدوء مطبق تخترقه شقشقة العصافير، وأسواق من الطوب، وأخرى طينية من الجهات الأربع. جبل السكارى على الضفة الغربية لوادي وج متربعاً وشامخاًَ، اسمه أزعج سكانه، فاستبدلوا به مسمى «هضبة الفقيه» نسبةً إلى أحد وجهاء الحي الذي يملك بجوار الجبل مزرعة، تقلص حجم الجبل عما كان عليه قبل قرون، وظل ما تبقى منه شاهداً على حكايات المكان. «وادي النمل»...عشوائية تضم ثقافات أفريقية في نسيج واحد كما هو منظر النمل داخل مخابئه، على نفس الصورة هو واقع حي النمل في الطائف، حي غارق في العشوائية، مبانيه متداخلة بعضها ببعض، توحي ممراتها ونوعية الخامات المستخدمة في تشييدها عن بدائية لم تراعِ فنون التصميم الهندسي الحديث. وعزا أحد أهالي الحي حمد الحارثي إخراجه في صورته المشوهة إلى عمليات البناء مطلع القرن الهجري الحالي، إذ يتذكر أنها تمت على عجل، إضافة إلى أن غالبية السكان استغلوا إجازات نهاية الأسبوع لبناء منازلهم في ظرف زمني لا يتجاوز اليومين من أجل الظفر بمنزل يؤوي أسرهم، ما جعل فرصة التفكير في الشكل الداخلي والخارجي معدومة تماماً، مبيناً أن بعض المنازل تتعرض أحياناً للإزالة و«نتفاجأ بعودتها شامخة بعد مرور أيام قلة»، وظل الوضع على هذه الحال في شد وجذب إلى أن خرج حي وادي النمل للوجود من رحم المعاناة، مشيراً إلى أن أوضاعه المادية التي وصفها بالصعبة حالت دون انتقاله إلى الأحياء المتطورة في ظل ارتفاع تأهيل العقارات، كاشفاً وقوعه في حرج حال الإدلاء لأي أحد بمعلومة تفيد بأنه وأبناءه من سكان وادي النمل. وأوضح أن الشبان الذين لا تزال أسرهم تقيم في وادي النمل يقومون على ترويج مسمى وادي «النمر» في أوساطهم بدلاً من «النمل» لتقارب نطق الكلمتين واختلاف الدلالة الشاسع بينهما، خصوصاً أنه لم يعد يخفى على أحد أن «وادي النمل المذكور» في القرآن الكريم الذي مر به نبي الله سليمان (عليه السلام) يقع في مدينة صفد في فلسطين. والجائل في دهاليز «الحي» يخلص إلى نتيجة لا تقبل الجدل، وتؤكد تحول الحي العشوائي عقب شروع سكانه في هجره مع مرور السنوات والاستقرار في أحياء تتمتع بالتنظيم وتوافر الخدمات، إلى مقر لسكنى جاليات قدمت من أدغال أفريقيا بثقافات مختلفة تغلبت على ظروفها وامتزجت في بوتقة واحدة. وكشف إسماعيل هوساوي أن حي وادي النمل على رغم وضعه السيئ في نظر السعوديين، إلا أن سمعته حققت ما لم تحققه الأحياء التي تفوقه، بل تجاوزت الحدود وأضحت منتشرة، لاسيما في دول أفريقية عدة، ولم تحظ بالتوسع ذاته في الدول الآسيوية والأوروبية، وقال: «نحن الأفارقة نمارس طقوسنا وعاداتنا وتقاليدنا خفية في منازلنا للحيلولة من أعين المتطفلين، ونشعر بأننا في بلداننا ونشارك أبناء جلدتنا أفراحهم وأتراحهم بطريقتنا الخاصة، وفي الوقت الذي تنافر فيه الناس إلا أننا متماسكون ومتعاونون وقد تكون الغربة التي لا تؤلمنا كثيراً تشكل عاملاً رئيساً لهذا التماسك»، واسترسل: «تطور ترابطنا إلى حد المصاهرة، فتجد فتاة نيجيرية اقترنت بشاب تشادي وأخرى من مالي وهكذا»، لافتاً إلى أن أقاربهم الذين يأتون إليهم من أفريقيا بحثاً عن فرصة عمل لتحسين مستوى المعيشة يعدون وادي النمل مقصدهم، «إذ نقوم على مساعدتهم وتسهيل أمورهم في هذا الجانب وتوفير سبل الراحة لهم بعد عناء السفر». صخور «جبل السكارى» تزين المباني الأثرية على الضفة الغربية لوادي وج يتربع جبل «السكارى» وسط حي «قروي»، دك صخوره غزو الزحف العمراني أخيراً، وبقي مسماه الذي اقتبسه قسراً وفقاً للمؤرخ عيسى القصير منذ العصر الجاهلي، ولا يزال يطارده ويخدش عنفوانه وظل ملتصقاً به لأكثر من 1400 عام، ولم تمحه حضارات تتابعت على مدى مئات السنين. وقال القصير: «تواترت الروايات في بطون كتب التاريخ وكشفت سلوك ثلة ارتادت الجبل في العصور السحيقة، لتُعاقِر في كهوفه «الخمر»، وجاء الإسلام ليحرم تلك التصرفات وظل الاسم الذي وصفه ب«مخلفات الجاهلية» صامداً لم يترنح، مضيفاً أن في قمة الجبل ما يعرف ب«المهراس» لهرس العنب ليتحول خمراً، في دلالة على ما كان يجري فيه. وإلى جوار جبل السكارى، اعتاد سعيد القرشي (80 عاماً) الجلوس هناك، متبادلاً أطراف الحديث بنبرات صوت تعبر عن حنين، يستعيد من خلالها الذكريات مع من هم في عمره، أمضى جلها (على حد وصفه) متنقلاً بين الأزقة الضيقة منغمساً في تباريح الطفولة والصبا. وأبان ل«الحياة» أن اسم «السكارى» ولّد لديه وأقرانه من المسنين غيرة للدفاع عنه، دفعتهم إلى إذابته واستبداله بمسمى «هضبة الفقيه» نسبة إلى أحد وجهاء الحي الذي يملك بجوار الجبل مزرعة، غالبية إنتاجها من الحبوب معتمداً في سقياه على الأمطار وهي ما يعرف اليوم بالزراعة المطرية، وعزا تغيير الاسم إلى إضفاء نوع من التأدب عند تعامل الغرباء مع أهالي الحي الذين ترعرعوا بين جدران مبانيه. وأشار إلى أن الجبل ليس بحجمه الذي عرف به في الثمانينات الهجرية، لافتاً إلى أن صخوره عرفت بصلابتها وتم تفتيتها وإخراجها في قوالب هندسية بواسطة أدوات تعتمد على الجهد الشخصي واستخدامها لتشييد المباني. وتابع: «لا يخلو مبنى أثري من داخل وخارج سور الطائف القديم من دخول صخور الجبل الذي يخجلني أن اسميه ب«السكارى» ضمن تركيباتها التي صمدت أمام عوامل التعرية عشرات العقود»، متوقعاً استمرار الصمود طويلاً ليبقى إرثاً تاريخياً ثميناً للأجيال المقبلة، وفتح أمامهم فرصة المقارنة شرط تفقدها وصيانتها دورياً. ومن المواقف العالقة في ذاكرته منذ 60 عاماً روى القرشي مشاهدته على الطبيعة جماجم بشرية تدحرجت من بين صخور الجبل التي خلخلها جريان المياه في يوم مطير، مفيداً أن والده الراحل عايش معه الموقف وأخبره أن تلك الجماجم تعود إلى جنود قضوا في معارك طاحنة قديماً، وأفصح عن تردد عدد من الشبان على الموقع بدافع حب الاستطلاع وسبر الأغوار لزيادة حصيلتهم المعرفية. بساتين المثناه: «مصر صغيرة» تقاوم زحف البنيان «مصر الصغيرة» و«جنة الأرض» اسمان أطلقا على بساتين «المثناه» التي لم يبق منها سوى مساحات متواضعة يحيطها هدوء مطبق تخترقه شقشقة العصافير وأسوار من الطوب وأخرى طينية من الجهات الأربع، من إنتاجها ما لذ وطاب من العنب والرمان الطائفي إلى جانب الخوخ والورقيات وفاكهة متنوعة، وتضم مسجد «عداس»، إضافة إلى «البستان» الذي استراح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إبان دعوته أهالي الطائف للإسلام. وحول اندثار غالبية بساتين المثناة، أوضح أحد السكان دسمان القرشي أن الرقعة الخضراء لم تقتصر على المثناة بل امتدت حينما كان المجتمع قروياً زراعياً بسيطاً وعانقت حي شبرا مروراً بالسليمانية والمنطقة التاريخية، مبيناً أن زيادة عدد السكان جاءت نتيجة هجر البدو الرحل للصحاري والقفار واستقرارهم في الطائف. واتخذت الجهات المسؤولة إجراء تم من طريقه توجيه المياه التي ترتوي بها البساتين لسد حاجة الإنسان أولاً، ولم تستطع الأشجار مقاومة العطش الذي افقدها رونقها وخضرتها وعجل بخطاها إلى «الموت». وأبان المؤرخ عيسى القصير أن عدد بساتين المثناة تجاوز ال150 بستاناً، ولم يتبق منها كأملاك خاصة سوى ثلاثة فقط، إذ امتدت إليها يد الاستثمار وحولتها إلى استراحات ومبان سكنية ومحال تجارية. «قملة»... «أسطورة فتاة» بدلها الخوف من «حاكم» على الشمال من وادي وج يقع حي «قملة» الذي يوهم اسمه المتلقي للوهلة الأولى أن قواميس اللغة العربية نضبت مواردها عن المد بالمفردات، بيد أن الحقيقة تكمن في أنه أطلق نسبة إلى بئر عذب ماؤها تحمل الاسم ذاته الذي غلب على الحي، إذ أكد أحد قاطني الحي حسين العصيمي أن المتداول في الأوساط الاجتماعية يشير إلى معتركات مرت ببئر في الموقع لا تزال الصهاريج تتردد على منهلها يومياً للتزود بمياهها العذبة التي تجود بها، عرفت في الحقبة الزمنية الماضية ببئر «قمراء»، وتوقع أن قصة «قمراء» وهي فتاة عاشت قصة حب مع عشيقها، لا تخلو من الأسطورة، بدأت بتعارفهما على المورد وخلصت إلى اتفاق على زواج بدد أحلامهما بتحقيقه والد العشيق الذي اتهم الفتاة بالقسوة في التعامل مستدلاً ببعض أشعارها التي رصدها مع ابنه. وأشار العصيمي إلى أن الأهالي اُكرِهوا على استبداله ب«قملة» خشية سطو حاكم جائر في عهد الدولة العثمانية «يأخذ كل شيء غصباً». وتابع: «إن اختيار اسم «قملة» يرمي إلى «غرس» كرهها في نفسه لعله يزدريها كي لا يختطفها من ملاكها الذين ورثوها عن أجدادهم، وقال: «إن حيَّنا محظوظ بأسماء الآبار»، ملمحاً إلى أن الاسم المعتمد رسمياً في الوقت الراهن «حي القطبية» وهي الأخرى بئر مجاورة ل«قملة» ويبدو أن الأخيرة لا تتماشى مع معطيات العصر لذلك اعتمدت الأولى.