تطور مثير ذاك الذي حدث في جهاز هيئة الأمر بالمعروف الخميس الماضي. فبحسب بعض المواقع الإخبارية، كإيلاف وأنحاء وسبق، وموقعي التواصل الاجتماعي تويتر وفيسبوك، فإن الرئيس العام، د. عبداللطيف آل الشيخ، استنجد بقوات الأمن مستبقاً زيارة احتجاجية تداعى لها عدد من أفراد هيئة الأمر بالمعروف، ربما من موظفي الفروع، للتعبير عن الاستياء من طريقة إدارة د. عبداللطيف للجهاز العتيد. وَرَدَ الخبر بصيغ مختلفة. تتأثر الصيغ بحسب موقف الوسيلة الإعلامية من رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكني سأورد الخبر، كما أورده غير واحد من المغردين في تويتر من المتعاطفين مع منكري مسلك الرئيس والمؤيدين للمحتجين عليه. يقول الخبر: «وُجدت اليوم دوريات مكثفة حول الرئاسة العامة للهيئات، وذلك بعد أن عزم أعضاء الهيئة في الرياض على الذهاب للرئيس العام ومناقشته حول إعفائه عادل المقبل وعبدالله البرقان من العمل الميداني، ولمناقشته تأليبه الرأي العام ضد أعضاء الهيئة، وكذلك تأييده قيادة المرأة السيارة، ودوره في تمرير مشروع تأنيث المحلات المختلطة… وأخيرا هناك أنباء عن إلغاء الدوريات المساندة التي كان يقودها عادل المقبل وأثبتت فاعليتها في العمل الميداني… إلخ». تعمدت أن لا آتي بأي نص للخبر من مواقع إخبارية لا تكون ناطقة باسم الفئة الممانعة لإصلاح الجهاز وترشيد سلوكيات موظفيه. فبالنسبة لهؤلاء الممانعين، ومؤيديهم الكثر خارج الجهاز، فإن أي وسيلة إعلامية، أو أي فرد، ليسوا مؤمنين بلا قيد ولا شرط برؤية هذه الفئة إيماناً كاملاً تاماً غير منقوص، فإن هؤلاء سيبقون محل الظن السيئ ومجالاً مباحاً لإطلاق أبشع الاتهامات بحقهم متى ما صدر عنهم أي نقد لهذا الجهاز العتيد. لذا، أتيت بنص يتداوله مؤيدو الفئة المتوجسة من الرئيس الممانِعة لخطواته ورؤيته في تنظيم أمر الجهاز. في مقالتي اليوم، سأتناول الحادثة منطلقا من الخبر المصاغ أعلاه.. في هذا السياق، لا يفوتني أن أركز على التدقيق بمغزى «وُجدت دوريات مكثفة». قطعاً لم توجد هذه القوى الأمنية لمجابهة بضعة موظفين إنما لمواجهة حشد تتناسب كثافته مع كثافة هذه القوة الأمنية. بكلمات أخرى، لم يكن المعترضون قلة أو فئة معزولة، بل ربما يشكلون الجسم الرئيس لمنسوبي هذا الجهاز. الحادثة برهان عياني على ما سبق أن أشار إليه المحامي عبدالعزيز القاسم، إبان مشاركته في برنامج الثامنة ب «هيئة داخل الهيئة» كعامل ممانعة لإصلاح هذا الجهاز، الذي حاولت أن أعمق منه في مقالة لي في هذه الصحيفة قبل أربعة أسابيع عن أسباب فشل إصلاح هذا الجهاز. إذا وضعنا هذه الحادثة مع ما سبق أن صرح به د. عبداللطيف آل الشيخ عن تجسس على هاتفه من قبل أحد موظفي مكتبه، وما يكتبه جمهور خط الممانعة هذا في تويتر وفيسبوك عن الرئيس ومحاولاته الإصلاحية، فإنه يمكن لنا أن نفهم كلاً من أسباب الممانعة ونوعية الممانعين. لنرجع للنص أعلاه. النص ثمين، فهو يسرد النقاط التي ينقمها الممانعون على رئيسهم المحاول لأخذ الجهاز لوجهة جديدة. هذه النقاط تتمثل في: -1 إعفاء عضوين من العمل الميداني، -2 عدم دفاعه عن أعضاء الهيئة، -3 تأييده قيادة المرأة السيارة، -4 دوره في تمرير مشروع تأنيث المحلات المختلطة، 5- أنباء عن إلغاء الدوريات المساندة. بعض جمهور الممانعين، وربما أن بعضهم موظف ميداني في الجهاز، استدعى ذكرى الرئيس السابق، الشيخ عبدالعزيز الحميّن، لمقارنة سيرته «العطرة» بالرئيس الحالي وسيرته المرفوضة. لو ركبنا نقاط الاعتراض على الاستدعاء الإيجابي لسيرة الرئيس السابق للجهاز لخرجنا بالمواصفات المطلوبة لرئيس هيئة الأمر بالمعروف، وفقاً لرؤية هذا الفريق، الذي يبدو أنه يمثل ثقلاً كبيراً في الجهاز، فإن مواصفات الرئيس يتوقع أن تكون عكس كل النقاط أعلاه. أي أن الرئيس المُشتهى لن يعفي الناشطين من أعضاء العمل الميداني، فنشاطهم هو المهم وليس مدى انضباطهم بالأنظمة والتعليمات، وسيدافع عن أعضاء الهيئة وسيعارض قيادة المرأة السيارة، وأيضا خطط وزارة العمل فتح فرص عمل جديدة للنساء! هؤلاء المعترضون محقون جزئياً، وإن كانوا عاجزين عن التكيف مع التغيرات. فما تختزنه ذاكرتنا عن الرؤساء السابقين أنهم كانوا بالمواصفات المطلوبة أعلاه. بوضوح، كانوا سياجاً يحمي أعضاء الهيئة من سطوة القانون ومحاسبة المجتمع. لكي ندرك عمق وفداحة هذه الأزمة، أزمة الممانعة ضد الإصلاح، ليكن المأخذ الثاني مثالنا، أي «عدم دفاعه عن أعضاء الهيئة». أساس هذا المأخذ هو الاستراتيجية الإعلامية التي اتبعها الرئيس العام في التعاطي مع مطاردة اليوم الوطني. فالرئيس ركز على مصلحة جهازه فحاول أن يُخلصه من دم الضحيتين. كيف؟ كان الرئيس أصدر تعميماً قبل حادثة اليوم الوطني بثمانية عشر شهراً، أي بتاريخ 1434/5/23 ه، وذلك بمنع مطاردة دورياته المطلوبين. وفقاً لهذا التعميم، فإن أي دورية للهيئة تتورط في المطاردة هي مخالفة لتعليمات الجهاز، ويجب أن يتحمل أفرادها ثمن اقترافهم هذا الخطأ وما ينتج عنه. حادثة اليوم الوطني متهم فيها عدة أعضاء للهيئة ودوريتان لها. هناك احتمالان عن دور هؤلاء الأفراد في هذه الحادثة. إمّا أنهم متورطون في المطاردة أو العكس، وهو ما كانت ستوضحه التحقيقات. إن ثبت الاحتمال الأول، فإن ذلك، وفقاً للاستراتيجية الإعلامية للرئيس العام، يعد خطأً فردياً لا دخل للجهاز به، بدليل تعميم منع المطاردة. وإن ثبت الاحتمال الثاني، فإن هؤلاء الأفراد سيعودون لعملهم. لإتمام النأي بجهازه عن الحادثة، قام الرئيس العام بزيارة تعزية لأسرة الضحيتين، ابتعد بجهازه عن التحقيقات، أصدر أمراً بعدم تدخل جهازه في التحقيقات ولا حتى بتوكيل محامين عن المتهمين من منسوبي الجهاز. في نفس الوقت، ظهر الرئيس في وسائل الإعلام، برنامج «الثامنة» مع داود الشريان وبرنامج «يا هلا» مع علي العليان؛ ليدافع عن الجهاز، رابطاً إياه بالشعيرة الدينية. شخصياً، لا أتفق مع استراتيجية الرئيس، التي أعتبرها بالغة الدهاء. فعبرها يقدر الرئيس على النأي بجهازه عن أخطاء أفراده رغم أن الحادثة، بالنسبة لي، ليست إلا رأس جبل الجليد من مظالم رجال ميدان الهيئة للناس. لكن يتوجب علي الاعتراف أن الرئيس العام ومن موقعه كان داهية، واتبع وسيلة بالغة الاحترافية لإخراج جهازه بأخف الأضرار من كارثة تسبب بها منسوبو جهازه. هذا الدهاء ليس محل تقدير الفئة الممانعة، بل سبب نقمتها! لماذا؟ لأنهم، بعكس الرئيس العام، ليسوا مهتمين بإصلاح الجهاز والمحافظة عليه وإبقائه، بل هم مهتمون بالمحافظة على قدرتهم على التسلط على الناس في الأسواق والشوارع. لم تكن استراتيجية الرئيس المفيدة للجهاز والشعيرة ولكن المهددة لتمكن هؤلاء من الناس لتلقى استحسانهم. يريدون أن يتسلطوا على النساء في الأسواق ويحرموهن فتح فرص جديدة للعمل، ويريدون رئيساً وظيفته أن «يرقع» لهم كوارثهم، فيدافع عن غير الملتزمين بتعليمات الجهاز بدلاً من أن يحاول النأي بالجهاز عن أخطاء أفراده. من الواضح أن هذه الجمهرة هم من رجال الميدان، أي المحتسبين. وأن إجراءات الرئيس العام تهدد «مكتسباتهم» التي جنوها على مر العقود الماضية. هذه المكتسبات ليست مميزات مالية أو وظيفية، بل سلطة، سلطة واسعة كبيرة على لبس الناس وسلوكياتهم، وخطوات الرئيس لترشيد هذه السلطات الواسعة تمثل تهديداً. في تفسير سلوك البشر وممانعاتهم ضد شيء أو إقبالهم عليه، يقترح فوكو أن نفتش عن «القوة» كمفهوم تفسيري لهذه السلوكيات. إن القوة والبحث عنها والرغبة في مراكمتها والخوف من فقدانها محرك كبير لجمود فئات وتطور أخرى. ويفترض عالم الاجتماع العراقي علي الوردي أن العربي مدفوع بالرغبة في السلطة والتحكم بالآخرين أكثر مما هو مدفوع برغبات الحياة، كما يقترح نموذج فرويد. ويقول الأنثروبولوجيون من أنصار النظرية الانقسامية إن التنظيم الاجتماعي للمجتمعات الانقسامية، التي يعدون المجتمعات العربية جزءاً منها، يفرز بنى اجتماعية جديدة على أسس عدة من أهمها السلطة والقوة. وكما أن الممانعين للإصلاح سيرفضون الإصلاح لأنه يهدد قوتهم وسلطتهم، فإن ثمة من سيتحمسون للإصلاح لأنه سيمنحهم سلطة وقوة. في حالة الهيئة، الممانعون هم المهددون بإضعاف سلطاتهم بسبب التنظيم والترشيد. لذا يفترض براغبي إصلاح هذا الجهاز البحث عن قوى وفئات داخل الجهاز تستند بقوتها إلى التنظيم والترشيد. سيصعب على الرئيس العام النجاح في مساعيه الإصلاحية إن هو افترض أن التعميمات ستكون كفيلة وحدها بإصلاح الجهاز. لابد له من خلق فئات داخل الجهاز ترى في الإصلاح والترشيد قوة لها.