لا يرتوي عطش الاستخبارات الأمريكية إلى جمع المعلومات الاستخبارية من كل أنحاء العالم سواء اتَّبعت طريقاً مشروعاً أو غير مشروع، والهدف بالنسبة إليها هو جمع المعلومات بأي طريقة ممكنة تحت حجة واحدة هي حماية الأمن القومي الأمريكي، وإذا كانت صحيفة اللومند الفرنسية كشفت عن تجسس ال «سي آي إيه» على حوالي 70 مليون مكالمة للفرنسيين، فكيف بالذي لم يُكشف عنه؟! وتجد حكومات أوروبا نفسها اليوم في موقف حرج تجاه هيبتها الدولية، كما يضع هذا العمل الاستخباراتي الأمريكي قادة أوروبا على المحك أمام شعوبهم، ويطرح قضية السيادة والحدود السياسية التي باتت مفتوحة ولم تعد تحميها الجيوش، بالإضافة إلى المجال الحيوي الإلكتروني بعد التطور التكنولوجي المذهل في العالم. وقد اجتمع القادة الأوروبيون أمس لينظروا في الاختراق الأمريكي الجديد في التجسس، الذي وصل إلى هاتف الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل. وهذا ما يطرح سؤالاً مفاده: لماذا أمريكا تريد التجسس على الجميع؟ هل حقاً مكالمات ميركل وغيرها من مكالمات الديبلوماسيين الأوروبيين تقع تحت حماية الأمن القومي الأمريكي، في حين أن أوروبا كلها حليفة أمريكا وتشترك معها في اتفاقيات كثيرة لتبادل المعلومات الاستخباراتية؟ كما أن الطرفين في حلف عسكري واحد يسهر على حمايتهم وحماية آخرين في هذا العالم، فهل تريد أمريكا أن تذكِّر قادة أوروبا وآخرين بأنها الأقوى وأنها قادرة على معرفة كل شيء حتى محادثاتهم الشخصية مع عائلاتهم؟ وهذا يطرح تساؤلاً حول الهدف الحقيقي من كشف إدوارد سنودن العميل في الاستخبارات الأمريكية السابق، قبل أشهر، حقيقة مشروع التجسس الأمريكي، وهل كان فعلاً منشقاً وأن هدفه كما قال يتعلق بالديمقراطية وتطبيقها واحترامها، الذي تتجاوزه الاستخبارات الأمريكية، أم أن كشفه كان جزءاً من سياسة الاستخبارات الأمريكية في إفهام العالم بأن الجميع تحت رقابتها بطريقة أو بأخرى؟ وسواء كان كشف سنودن حقيقياً أو مزيفاً، فالثابت أن أمريكا تريد أن تبعث رسائل بأن الجميع تحت سيادتها المعلوماتية والاستخباراتية، وأن أحداً لن يستطيع أن ينأى بنفسه عنها. وبغض النظر عمَّا قد يصدر من مواقف سياسية وديبلوماسية عن قادة أوروبا، التي دعت مفوضيتها الأوروبيين إلى الوقوف بشكل موحَّد في وجه قضية التجسس الأمريكي، فليس من المتوقع أن تتراجع أمريكا عن أعمالها الاستخباراتية طالما أنها تملك التكنولوجيا الأكثر تطوراً، وتملك القوة العسكرية الأكثر فتكاً، والاقتصاد الأقوى في العالم، وأن كل ما سيصدر عن أوروبا ليس سوى محاولة لحفظ ماء وجه قادتها أمام شعوبهم.