لعل واحدة من أهم المشكلات التي واجهت الثورة السورية، هي أنها لم تحظ بإعلام متوازن، استطاع أن ينقل مجرياتها وتطورها وافتراقاتها، بشكل حيادي وموضوعي، يبيِّن ما لها وما عليها، ويلقي الضوء على أهم تفاصيلها وسيرورتها وارتباط أحداثها بالحالة الديموغرافية والجيوسياسية السورية، فمن سوء حظ هذه الثورة أن الإعلام المرافق لها كان إما إعلاماً تابعاً للنظام السوري وموالياً له، وبالتالي يهدف إلى شيطنة كاملة للثورة ولتشويه صورة الثوار السوريين عبر وصفهم بأبشع ما يوصف به البشر، والحديث هنا طبعاً عن أكثر من 60% من الشعب السوري، وبالتالي هي عملية تشويه لصورة السوريين عموماً من قبل النظام الحاكم، وهذ ما انعكس على صورة السوري في العالم، أو إعلاماً مضاداً للنظام السوري ومؤيداً للثورة، لكنه التأييد المناسب لسياسة هذا الإعلام وتوجهاته وتوجهات مموليه، مما جعل جزءاً رئيساً من الثورة يغيب عن الوجود، وكان من الممكن لحضوره الإعلامي أن يغير من صورة الثورة والتعاطف العالمي معها، أقصد الجانب المدني والنضال السلمي الذي ساد السنة الأولى من الثورة، ومازال حتى اللحظة يظهر في كثير من التفاصيل والأحداث، لكن يتم إقصاؤه إعلامياً عن الظهور لصالح أسلمتها أو إظهارها كحالة (جهادية) دينية مرتبطة بحركة الجهاد العالمية (القاعدية)، وإظهار الجانب العسكري فقط منها دون الأخذ بالحسبان الأسباب التي أوصلت الحالة السورية إلى ما وصلت إليه، ودون تسلسل موضوعي ليوميات الثورة يمكن من إنصافها والتعامل معها كحالة تغيير شاملة، ضمن سياق زمني وشرط نفسي مجتمعي شامل سيترك آثاراً كبيرة عليها سواء سلباً أو إيجاباً. أستثني هنا بعض الصحف الورقية والإلكترونية المحلية وبعض الإذاعات المحلية الخاصة التي ظلت محصورة داخل نطاق السوريين أنفسهم ولم تستطع، لأسباب عديدة، أن تنتشر خارجياً وتشكل إعلاماً ثورياً بديلاً، فضلاً عن القليل جداً من الكتب الأدبية التي سجلت يوميات وقصص الأشهر الأولى من الثورة فقط، وكذلك المقالات الصحفية والتحليلية في الصحف العربية والعالمية لسوريين وعرب وغربيين والتي لم تتوقف منذ اليوم الأول للحدث السوري الاستثنائي. من هنا يكتسب كتاب (سوريا درب الآلام نحو الحرية) للدكتور عزمي بشارة والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أهمية كبيرة من حيث كونه الكتاب الأول الذي يرصد الحدث السوري لمدة عامين منذ لحظة حدوثه في شهر مارس 2011 بشكل منهجي أرشفي وتأريخي يعطي للثورة السورية حقها، كونها ثورة شعبية مجتمعية شاملة، لا مجرد احتجاجات بشرية يمكن للقمع السلطوي الأمني والعسكري أن يوقف مدها أو يقضي عليها، ويلقي الضوء على التطورات التي طرأت عليها وارتباط مجرياتها بالتاريخ السوري، القديم والحديث، وبالتحالفات السياسية السورية التي اشتغل عليها نظام الحكم منذ سبعينيات القرن الماضي التي ساهمت في تحويل الثورة إلى قضية دولية تجاذبية، مما زاد في حالة الاستعصاء في إيجاد حل سياسي ينقذ مستقبل سوريا دون أن يلقي بالتضحيات المذهلة لشعبها في الهواء، ولعل من أهم فصول الكتاب تلك التي تتحدث عن الحالة المجتمعية السورية (الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية والطبقية) التي اتخذت أشكالاً وأبعاداً جديدة في المجتمع منذ أكثر من نصف قرن، وكان لها الدور الأكبر في استمرار النظام السوري في وجوده حتى اللحظة، عبر اعتماده على تكوينات مجتمعية تمكن خلال عقود حكمه من ربطها به ارتباطاً وثيقاً، حوَّلها إلى قوى مضادة للتغيير، وبالتالي معادية لأي حراك شعبي تغييري، وذلك في تحليل نفسي واجتماعي لواقع هذه التكوينات ينصف حالها ولا يضعها في إطار الشيطنة المضادة، ويفسر الكتاب تحولات الثورة السورية من السلمية إلى العسكرة إلى ظهور العناصر الجهادية التكفيرية وقدرة النظام السوري على نشر الفوضى وخلط الأوراق تطبيقاً لشعاره الأول (الأسد أو نحرق البلد)، إلى حال تشكيلات المعارضة السورية وخلافاتها وأسباب هذه الخلافات والعجز عن تشكيل جبهة موحدة تضم الجميع، إلى الواقع العسكري النظامي والمعارض وواقع الحكم الأمني السوري وارتباطه بالواقع الاقتصادي والفساد الفاضح الذي كان السبب الأهم لانطلاقة الثورة مثلما كان العائق الأول أمام أية محاولة لإصلاح النظام فيما لو توفرت أساساً الرغبة في الإصلاح، معتمداً في ذلك على المراجع والكتب والمقالات والحوارات والأبحاث والدراسات والتقارير الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي التي تبحث في الشأن السوري منذ ما قبل الثورة إلى ما بعدها، ولعل أهم المآخذ التي أثارت تجاذبات في الوسط السوري المعني بعد صدور الكتاب هو إغفاله لذكر مرجعية مهمة في الثورة والمعارضة السياسية ما قبل الثورة ك (ياسين الحاج صالح) الذي يَعُده كثيرون أنه أحد أهم مفكري ومنظري الثورة السورية، وإغفال موقع (الجمهورية) الذي أنشأه الحاج صالح ويشارك فيه كثيرون من شباب الثورة، من مراجع الكتاب، وهذا ما أفقده، حسب رأيهم ،جزءاً من موضوعيته، وعلى الرغم من أن الكتاب يحتاج قراءة معمقة ودراسة طويلة لا قراءة سريعة كونه ليس مجرد وثيقة مؤرشفة للحدث، وإنما كتاب تحليلي وبحثي، فباعتقادي أن (سوريا درب الآلام نحو الحرية) سيكون أول وأهم المراجع التاريخية التي وضعت عن الثورة السورية و سيعتمد عليها المؤرخون لاحقاً في حديثهم عن هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ سوريا.