مصر عنوان العالم العربي، وهي من الدول الإسلامية المهمة أيضا، وهذه حقائق واقعة رضينا بذلك أم كابرنا، ورضي بها المصريون أنفسهم أو نازعوا: فما يجري في مصر يسترعي اهتمام العرب والمسلمين استرعاءه أنظار الدول الأخرى، ويستدعي تتبعهم؛ وكثيرا ما قلد العرب مصر في سلوكها السياسي، واقتبسوا من حركاتها وأنشطتها الحضارية الأخرى. ليس هذا فحسب، فلمصر وما يجري فيها أبعاد دبلوماسية تسترعي اهتمام الدول الكبرى خاصة. وقد كثرت التعليقات على التطورات الأخيرة فيها، فلمّا دُعِيتُ للإسهام بكتابة كلمة لملحق «الشرق» هذا الأسبوع، أسعدتني تلبية الدعوة، وانتهزت الفرصة للتعليق على بعض ما يجري في مصر اليوم. تابع العالم الفصل الأخير من عهد «الرئيس حسني مبارك» بشيء من القلق والارتياح معا: فالتغيرات السياسية إذا جاءت نتيجة صراع مع النظام الحاكم مغامرة لا تعرف عقباها، فلما تم تبدل النظام بسلام (نسبي)، وبدأت الديمقراطية تستقر في تربتها الجديدة، وتسلمت السلطة حكومة ديمقراطية، شبت لتحديها معارضة عارمة، ميّزها استعدادها المبكر، لا للمشاركة في التجربة السياسية الجديدة مشاركة إيجابية، ولعب دور معارضة بناءة فيها، بل للنيل من النظام الجديد، ومناوأته بمرارة، والقضاء عليه. وتركز النقد، كله، على الصبغة الدينية التي ميزت الحزب الفائز، أعني الحزب الذي تشكلت منه الحكومة الجديدة – الإخوان المسلمين. وتعالى نقد المعارضين المر، وتركز لا على صلاح ما قامت به الحكومة الجديدة، أو عدم صلاحه، بل على طابعه الديني وحده الذي أفردته لصب جام غضبها عليه. وكذلك خلقت المعارضة الفرصة للقيادات العسكرية للعودة إلى الحلبة السياسية «لإنقاذ مصر من أزمتها الجديدة»! أريد أن أعرض هنا الأحداث الأخيرة في مصر كما تراءت لي، وكما استنتجتها مما سمعت وقرأت من وكالات الأنباء المختلفة. ورجائي ألا يكون اختلافي في الرأي مع المختلفين فيه معي سببا للنفرة أو البغضاء بيننا، فما كان اختلاف الرأي سببا للخصومة أو العداء بين العقلاء. وأحسب أن علي أن أعلن أولا أنني لا تربطني ب»الإخوان» رابطة إطلاقا، وأني لم أقابل ولا ناقشت منهم أحدا، ولا أذكر أني قرأت من منشوراتهم كتابا غير كتاب واحد بقلم كاتب قال إنه أخو مؤسس الحركة (وقد نسيت اسمه)، وقد أملّني الكتاب، فلم أكمله! هذا مدى علاقتي بالإخوان، وهي علاقة – كما يرى القارئ الكريم – من التفاهة ليست جديرة بالذكر، فعرضي هذا إذًا ليس دفاعا عنهم، بل محاولة تهدف إلى كشف ما يتراءى لي من اعتداء كِيل لهم بل للديمقراطية نفسها. فما هي الحقائق التي أبني عليها ما أقول؟ دعني أضعها كما يلي: أولها: أن الإخوان وصلوا الحكم عن طريق اقتراع عام أقر الناخبون والناخبات جميعا بسلامته وخلوه من الغش والشبهات. و (ثانيها) أن «الإخوان» فازوا في هذه الانتخابات بأكثرية مطلقة. أنا أسلم بأنها كانت أكثرية ضئيلة (على ما تواتر في الأخبار) ولكنها مطلقة، وضآلتها ليست سببا دستوريا مقبولا لتحدي الأكثرية التي أحرزوها أو رفض ما يستتبعها من تسلمهم زمام الحكم، وتسلمهم إياه وحدهم دون إشراك أحزاب أخرى. ولم يكن هناك ما يوجب تشكيل حكومة «ائتلافية» تتكون من الإخوان وحزب آخر أو أحزاب أخرى ما دامت لهم الأكثرية البرلمانية المطلقة؛ أما «مشاريع القوانين» التي يتقدمون بها ، فتخضع لتصويت برلماني تتقرر نتائجه في كل لائحة (مشروع قانون) على حدة. هناك فقط يتم تآلف الأحزاب أو تشاركها …إلخ ، ما لم تربط الحكومة مستقبلها بنتائج التصويت على لائحة معينة (وهو ما يسمى بطرح الثقة). ولا أريد الاستطراد في هذه الدقائق الدستورية هنا، فالعرف الدستوري مألوف وشائع. هناك حقيقة (ثالثة) لا بد من ذكرها: يدعي خصوم «الإخوان» أنهم حاولوا شحن القضاء والوظائف الرئيسة في الدولة باختيار أنصارهم لها! وهو مأخذ يدل على الجهل بقواعد الحكم الديمقراطي: فهذه التعيينات من حق الحزب الحاكم، والاعتراض يجب أن ينصبّ على اعتبارين اثنين لا غير: (i) مؤهلات القضاة والموظفين المدنيين الجدد، (ii) وطريقة إقصائهم – هل انطوى على مخالفة للقانون؟ وأي قانون؟ علما بأن للحكومة التي ستخلف «الإخوان» الحق المطلق في اختيار من تشاء من أنصارها حين يحين الأوان وفي الحدود القانونية أيضا التي تلزم الجميع: «الإخوان» ومن يخلفهم في الحكم على السواء. وأخيرا فهناك فكرة طالما كررها وأعاد تكرارها كتاب العلوم السياسية، وهي: أن الديمقراطية نبتة غضة بطيئة النمو، فليس من المتوقع ولا المعقول أن نرى ديمقراطية ناضجة في «جمهورية الكونغو الديمقراطية» أو اليمن السعيد في عشية أو ضحاها؛ وقد قُضِي على ما كان مطبقا من شبح الديمقراطية في مصر منذ ستين عاما، فليس مستغربا إذاً أن تكون التجربة الحالية (في مصر وغيرها من البلاد العربية) متعثرة وبعيدة عما نرى في «وستمنستر» أو «الكابيتول هيل» – وهذه بعيدة عن الكمال كما هو معترف به. والحقيقة أن التاريخ لم يشهد ديمقراطية «فاضلة» – حتى ولا في عز ديمقراطية اليونان التي يشيد بها المؤرخون! أليست هي التي حكمت على سقراط العظيم بالإعدام فامتثل، ليِصِمَ الديمقراطية اليونانية وصمة عار ما زالت الإنسانية تذكرها! الخطأ الذي ارتكبه أسيادنا الأمريكان أنهم أدخلوا في روع جماهير الدنيا أن الديمقراطية «بدلة» عالمية تصلح لكافة البشر بغض النظر عن خلفياتهم، وثقافتهم، ومراحل نضجهم، يرتدونها جميعا فتتكيف أجسامهم لها تلقائيا: بدلة تصلح لأجسام الأسكيمو والهنود الحمر وعشائر شمّر، صلاحها للسويسريين والسويد والسكسون: تُطَبّقُ اليوم، فتؤتي ثمارها غدا. سامحهم الله!ً بروفيسور وباحث اقتصادي عراقي