بكل أمانة، أنا أقرأ للعزيز الزميل/ خالد الغنامي من أيام مقالاته في (الوطن) مرورا ب (عكاظ) وانتهاءً بكتاباته في (الشرق) وهو كاتب -في ظني- نقي، ونبيل، وإنساني. وأنا أكتب الآن بعد قراءتي لمقال (فما ظنكم برب العالمين) الذي نشرته الشرق لخالد يوم السبت الماضي في مساحته الأسبوعية في (الرأي). والحقيقة أن عقدة المسألة أن «خالداَ» كتب في موضوع شائك ولم يحدثنا عن ما يعنيه الظن، لم يُعرِّف الظن لنكون على بصيرة، ولقد كان «خالد» أيضا على غير عادته يهرف في الرأي هرفا ويقطع بغير المقطوع به، ويحسم في غير مكان الحسم. لقد كان حاسما دون تحرز مع أن المفهوم الذي يتحدث عنه شديد التفاوت ومع أن اشتراطات تنزيله على الناس ليست بالسهولة ولا القطع الذي أبداه العزيز «خالد» في مقاله المكتنز الملموم. لقد كان مقالا ملموما غير أنه ينطوي على تشعث كنت أستنكره من كاتب بحجم «خالد الغنامي». إنه كان فيما يبدو على عجلة من أمره، في نفس الوقت الذي كان فيه بين الألم والأمل، وهي حالة أجدها أحيانا وأريد إسقاطها عليه الآن. إنه كان مستاءً فيما يبدو من عوارض الظن المزعجة وكلنا مثله، وكان يكتب فكرته شاكيا محتجا على نفسه وعلى رداءة الظن حيث تكون، والظن حالة معنوية شديدة التعقيد. لأجل هذا كنت أريد البناء على مقال «خالد» والاستدراك عليه أيضا، ولا أقطع بصواب ما أرى، غير أني سأسند ما أقول بمبررات لغة، ومبررات معنى قدر ما أستطيع. فما هو الظن إذا؟ في لسان العرب: إنه الشك واليقين، الكلمة تعني المعنى وضده، إلا أنه اليقين الذي لا يعني يقين العيان أو المعاينة، إنما هو يقين التدبر، فهو يقين معنوي إذا، وهذا يعني أنه اعتقاد فيصح أن نقول: يظن بمعنى يعتقد والاعتقاد القطع بصحة الفكرة قطعا حاسما لا يخالطه شك تواطئه النفس، ولا يقدح فيه قادح ولا يتحول، فإذا قرأنا مثلا قوله تعالى: «الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم» فهذا يعني أنهم يعتقدون على سبيل الحسم القاطع الذي لا يتحول ولا ينقطع، فالظن هنا الاعتقاد أو القطع بالشيء أو الفكرة. وفي الشعر لدريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مُدَجَّجٍّ سَرَاتُهُمُ في الفارسي المُسَرَّدِ يقول صاحب لسان العرب: أي استيقنوا، إنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك. وإذا فإن الظن بهذا المعنى الذي هو الاعتقاد ليس هو الذي يعنيه الحديث الشريف في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»، الظن هنا هو الشك، هو المعنى الآخر الذي هو ضد اليقين، فالنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- ينهى ويحذر من الشك الذي يعرض لأحدنا، أن يحققه ويحكم به. ففي الحديث نهي عن تحويل الظن السيئ (الشك) إلى الظن السيء (اليقين)، وعلى هذا فإننا أمام طبقتين من المعنى، وطبقتين من الفعل الإنساني أو القابلية الإنسانية.. طبقة الظن -السيئ وغير السيء- الذي هو اليقين وطبقة الظن -السيئ وغير السيئ- الذي هو الشك، فإذا ظن أحدنا ظنا حسنا ففكرة الأخلاق وأصل البراءة أن يجعله ظنا يقينا -أي اعتقاد- وإذا ظن أحدنا ظنا سيئا ففكرة الأخلاق وأصل البراءة أيضا أن يجعله ظنا شكا -أي أنه يرفضه ويرده- وهذا يعني أن يجعل نقيضه هو المعتقد، فهذا الظن السيئ يظل شكا لا نحققه ولا نحكم به قدر ما نظن -بمعنى اليقين- أن ضده هو الصواب، وهو الواقع. إذا هاتان عتبتان متقابلتان: ما وراء إحداهما هو المحظور، وما وراء الأخرى هو المأذون أو المراد أو الذي ينبغي. وهذه مسألة لا يقيسها إلا أحدنا في نفسه ولا يحيط بعلمها إلا الله تعالى وحده. ولكي لا أنسى فإن الموقف من الظن هو أيضا طبقتان من الفعل الإنساني: تحويل الشك (الظن السيئ) إلى يقين وإبقاء الشك (الظن السيئ) شكا أو تحويله إلى ظن يقين حسن. حين نحول ظننا السيئ إلى يقين حاسم نتخطى العتبة المحظورة، وحين نبقيه مجرد شك عارض نكون محايدين ولا نقع في الإثم، أما إذا ظننا ضده أي أحسنا الظن باعتقاد نقيض الظن السيئ فقد حولنا المحظور إلى مرغوب وإلى حسنة أخلاقية وإيمانية. هذه كلها مراتب معنوية دقيقة شديدة الخفاء، ولذلك كنت أقول إن هذه مسألة شائكة تحدث عنها «خالد» باختزال غير مقبول، وإلا فإن الظن في حقيقته يبدأ باستشكال عقلي أو توهم أو قياس موقف على آخر أو فقدان للثقة أو حتى فكرة مغلوطة عن النفس. أي أن الظن قد يتحول إلى علة نفسية فيكون مرضا شديد المرارة والإزعاج، وليس على المريض حرج، وإلا كيف تحدثنا عن مرضى الوسواس القهري يا أخي خالد؟ وأنا في الواقع لا أريد أن أثير أفكارا ربما تثير هي الأخرى شيئا من توهمات الناس، لكن بعض الشروحات الفقهية على قوله -صلى الله عليه وسلم- : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» بعضها يقول: أراد إياكم وسوء الظن وتحقيقه -أي تحويله إلى اعتقاد- ولم يرد مبادئ الظنون التي لا تُملك، وخواطر القلوب التي لا تُدفع. وهو ما سماه «خالد» الوساوس التي نصح بمدافعتها ورفضها وهي فكرة مكان التقدير. ويبقى هناك تفاوت في الظنون وفي خطورتها، إلا أن الذي يبدو ملحا هو: أن لا يظن أحد أن كل خاطر عارض أو فكرة سلبية أو شيطانية هي ظن موبق فندخل الناس في التحسس والوسواس. مبادئ الظنون لا تعني يقينيات الظنون، وقد أعجبتني عبارة للدكتور العودة قرأتها قبل فترة يفرق فيها بين يقين الشك وشك اليقين، الظن المحظور هو يقين الشك، أن نحول شكنا إلى يقين أما المعفو عنه -إن شاء الله- فهو شك اليقين الذي لا يتعدى استشكالات العقل وتطلعاته إلى ما هو فوق وسعه أحيانا ويدخل فيه أيضا مطلق ظنون الناس. أما فكرة أن الظن السيئ الذي يمر بذهن الإنسان قد يكون سببا في نزول الشر به فهي غير مقبولة، لأن مثل هذا الظن لا ينفك عن كونه أوهاما وتخرصات وهي لا تعني شيئا والله تعالى ألطف بعباده وأعلم بأحوال نفوسهم ومخاوفها، وليست ظنون الناس هي التي تحدد أقدارهم أو توقعها. وقد تكون الظنون والمخاوف أمراضا يؤجر عليها الناس وأكثرها أوهاما، لا تقع. إنك بغير قصد تريد أن تجعل الأم ألمين يا «خالد». والخلاصة أن الظن السيئ الذي ورد في الآية الكريمة لا ينفك عن كونه الاعتقاد، وهو غير الخواطر وإيراد الاحتمالات على النفس، ذلك أن أحدنا عندما يقطع بأن الله تعالى سيفعل شيئا محددا في الواقع أو في الأنفس فإن هذا يعني أنه يرجم بالغيب من جهة، وأنه يتألى على الله من جهة ثانية، ولا يمكن أن يقع هذا -على سبيل القطع- في نفس مسلم، فضلا عن مؤمن. إنما هو الرجاء والإشفاق.