حسب رؤيتي الضيّقة فإن هناك جنساً بشريّاً، وهناك إنسان، الإنسانُ بشريّ بالضرورة، لكن البشر ليسوا أناساً على العموم، والفارق الهشّ بين البشريّ والإنسانيّ يكمن في لفظة واحدة، هي ال»أنا». فبالرجوع إلى بدء الخلق، نجد أنّ خطيئة إبليس الكبرى لم تكن أكثر من أنانيّته، عندما رفض السجود لآدم اعتقاداً منه بأنّه خير منه، تلك كانت الجريمة التي لم ولن تغتفر، قول إبليس الرجيم: «أنا خيرٌ منه». يولد الكائن الحيّ بشراً، ويرتقي بإنسانيّته شيئاً فشيئاً، مكتسباً صفات الإنسان من بصيرته والإلهام الذي يتلقاه أولاً، ومن محيطه ومجتمعه وتربيته، وما يتعرض له من مواقف ومشاهد ثانياً، وفي سياق نمو الكائن الحيّ متفاوتاً بين رغباته البشريّة ونزعاته الإنسانيّة يتشكّل كائنٌ متمازج بين كينونتيّن، إحداها تستزلّه نحو الأرض، والأخرى ترتقي به نحو السماء. ومن فوارق التكوين الحيّ يتجسّد العقل، وهو الذكاء الأزليّ المفطور في كلّ الأحياء، في النبات والحيوان والطير والنسيج الكوني المتجدّد والمتغيّر والمتطوّر، هذا العقل الجزئيّ الموزّع بالقسطاط على الدنيا، يتكامل في أبعاده من خلال جنسنا ذي اليدين والقدمين والعينين واللسان، فهو الذي يضمحلّ في حدود متطلبات الهمّ المعيشي اليومي، أو يتسّع حيث لا حدّ للخيال والأماني والآمال والفضيلة، وهو الذي يحيلنا إلى كائنات ذات سلوكيات حيوانيّة همجيّة، أو يحيلنا إلى مخلوقات نافعة ذات إحساس جمعيّ. إنّني أشفق على جنسنا البشريّ من انحداره الإنسانيّ، فبعد أن كان رجل العصر الحجريّ يقتل ليأكل، أصبح رجل العصر الحديث يقتلُ ليسيطر أو ينفّس أو يتسلّى، وبين القِتلتين ذات البون الشاسع ما بين الجريمة والقصاص. لقد تطور الجنس البشريّ إنسانياً لحدّ الجمع نظريّاً وعلمياً وتحليليّاً بين جزيئيات الثرى وآفاق الثريا، ثمّ ما لبث أن انحدر في إنسانيّته لحدّ عدم التفريق بين الصواب والخطأ، بين المعقول واللامعقول، بين الغايات والوسائل النبيلة والخسيسة. نستيقظ صباحاً وعقولنا تفكّر في حدود أنانيّتنا، ونسير على خطى هذا الضلال، متجاهلين من نحن، وما المفترض بنا قبوله أو رفضه، وما المطلوب منّا فعله، ندور طوال طاحونة الساعات حولنا، ولا تتسع أحداق عيوننا لأبعد من أنوفنا، ونشاهد مما يحدث حولنا ولجنسنا على شاشة التلفاز، وعبر مواقع الإنترنت، وعلى ورق الصحف ما يؤكّد تخلينا عن إنسانيّتنا لمصلحة مكتسباتنا الآنيّة الضيّقة، وينتهي يومنا ونحن نفكّر في مكتسبات الغدّ، دون أن ترفّ أجفان عقلنا لنفكر قليلاً: ماذا يحدث لهذا الكون؟ ماذا يحدث لنا؟ ماذا يحدث للإنسان يا الله؟. أنانيّة بشرُ هذا الزمان تسجد لآلهة أهوائها ونفسها ومكتسباتها، فلمن تسجد أنت أيّها الإنسان؟.