ثنائية العلاقة بين الجسد والروح كانت مثار جدل منذ الأزل في عملية التفريق بين الكيان الإنساني كروح وجسد، فلقد وُجِدت في جميع الأديان والفلسفات الغابرة، ففي العصور الموغلة في القدم كان فلاسفة ومفكرو الإغريق ينظرون نظرة تحقيرية تهميشية للجسد باعتبار أنه عائق في الوصول نحو مرحلة الصفاء الروحي التي تخوّل للإنسان بلوغ الكمال، وقد أيدت بعض النظرات الدينية هذا التوجه، فالديانة البرهمية الهندوسية مثال صارخ على هذا التناقض المزعوم بين الروح والجسد، ففي هذه الديانة لا يمكن للروح أن تسمو وترتقي سوى بسحق الجسد وإنهاكه، فالجلوس على المسامير أو المشي على الجمر ونحو ذلك من الممارسات الغريبة والشاذة، ما هي إلا تعبير عن فلسفة إبقاء النفس خارج إطار الجسد، فالجسد هو وعاء الغرائز الشيطانية ومصدر الآثام والملذات التي يجب على الروح أو النفس أن تتطهر منه حتى تقترب من تحقيق كمال الإنسان التي تسمو فيه الروح إلى عالم المثل العليا عبر قمع تلك الحاجات الجسدية، والقريب أيضاً من هذا التصور نجده عند رهبان وقساوسة النصارى الذين يعتكفون في محاربهم وخلواتهم وينكفئون على ذواتهم، ويختلون بأنفسهم ويزهدون في الزواج لأنه ينزلهم إلى العالم السفلي ويعيق الروح عن الخلاص. وقد ظلت هذه الممارسات سائدة ومهيمنة إلى زمن بعيد عند كثير من الثقافات، إلى أن سطع الإسلام بنوره فأعاد القيمة للجسد واعتبر الجسد والروح كتلة واحدة، فرفض تعذيب الجسد أو حرمانه بأي حال من الأحوال ففي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله» وهكذا نرى أن للروح والجسد علاقة تكاملية يتسامى فيها الجسد ليصل إلى المستوى الذي يتعاون فيه مع الروح ويجعله معراجاً تبلغ به الروح سعادتها من خلال العبادات التي أمرنا بها خالقنا -عز وجل- فإذا كان الجسد يتوق إلى النظام الغذائي الجيد لاستيفاء صحته فكذلك الروح تحتاج إلى النظام الديني لاستيفاء نموها الطبيعي ورشدها المأمول. وها قد هلَّ علينا شهر رمضان المبارك بأيامه الفضيلة الطاهرة التي يتناغم فيها الجو الروحاني الهادئ مع واجب التعبد الذي يحيا فيه الإنسان جميعه بقلبه وفكره وحواسه وعواطفه لتكييف روحه، وتهذيب أخلاقه، فالصوم أحد وسائل تربية العقل والروح معاً وهنا تكمن عبقرية الإسلام الذي ليس هو دين آخره فحسب، وإنما دين الحياة بجملتها الشكلية والأخلاقية، التي لم يغفل عنها الإسلام أيضاً بتنظيم التعاملات بين أبنائه فالصيام ليس الامتناع عن غذاء الجسد فحسب، وإنما الامتناع عن ارتكاب الأخلاقيات السيئة فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: «رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاَّ الجوع».