تزداد الحاجة إلى المصالحات الداخلية في المنطقة العربية بعد عقود من عدم الاتزان وسطوة السلطة المطلقة على كل مفاصل الحياة التي كانت الدولة الأمنية طاغية فيها بشكل شبه كلي، فغابت روح المساءلة والمسؤولية التي يُفترض من الدولة بمؤسساتها القيام بها. تُعرِّف عديد من المصادر الحقوقية العدالة الانتقالية بأنها «مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر، وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات في الدولة المعنية». وقد بدأ الحديث عنها منذ إسدال الستار على الحرب العالمية الثانية، وبدأ تفحُّص الحقيقة حول ما جرى من انتهاكات فظيعة في أوروبا على وجه الخصوص بسبب الاحتلال النازي لتلك الدول، فكانت محاكمات نورمبرگ التي حاكمت قادة ألمانيا بسبب ما قاموا به من أعمال عدوانية إبان الحرب العالمية الثانية، لتشكل البدايات الأولى لتطبيق العدالة الانتقالية. في أغلب الحالات تعتبر العدالة الانتقالية مرحلة لاحقة لحقبة من النزاع المسلح أو الحرب الأهلية أو نتيجة لانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة النطاق، ما يفرض إعادة التوازن للمجتمع من خلال زرع بذور الثقة التي تكون في أسوء حالاتها، سواء بين السلطة والمجتمع، أو بين فئات متنازعة فيه، وتقوم السلطة بتغذية هذا النزاع تطبيقاً لمبدأ «فرِّق تسُد»، إلا أنه يصل إلى مستويات يصعب معها استمرار الانتهاكات أو حتى العودة للحياة الطبيعية إن لم يكن هناك برنامج يهيئ المجتمع والسلطة معاً لقبول الآخر مهما كان مختلفاً سياسياً أو عرقياً أو إثنياً، وكشف ولو بعضاً من الحقيقة. ولعل التجارب التي خاضتها عديد من المجتمعات تقدم بعضاً من الإجابات الضرورية أو المعطيات المطلوبة لترجمة العدالة الانتقالية في البلدان العربية، وخصوصاً تلك التي عانت من انتهاكات ولم تعالج في المحاكم العادية. وتعتبر جنوب إفريقيا مثالاً بارزاً في تجربة العدالة الانتقالية التي بدأتها بلجان الحقيقة والمصالحة التي اعتمدت على الاعتراف بالانتهاكات وطلب الصفح من الضحايا الذين يتم تعويضهم. تجربة كهذه غنية بالدروس والعبر، خصوصاً أن النهايات لم تكن جميعها حسب ما رغب ضحايا فترة الفصل العنصري «الأبارتهايد» وانتهائه بخروج الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا من السجن بعد سبعة وعشرين عاماً في زنازن حكم البيض، وإطلاقه مقولات تُرجمت على الأرض، أهمها «إن الضحية يمكن أن تسامح وتغفر لكنها لا تنسى ما حصل لها»، وذلك في محاولة لتجاوز عقود طويلة من الظلم الذي وقع على الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا. ورغم انبهار العالم بقدرة مانديلا ورفاقه على تبريد الساحة الداخلية ومنع الاقتتال بين الأغلبية السوداء التي انتزعت السلطة وبين البيض الذين فقدوها، إلا أن العدالة الانتقالية (المثالية) لم تنفذ كما أريد لها أو كما كان يطمح زعماء حزب المؤتمر الوطني الحاكم. فقد كانت الأزمات التنموية وإعادة بناء البلاد على أساس «دولة المواطنة المتساوية» من الكبر والصعوبة بحيث أعيد إنتاج بعض صور الاضطهاد في إضراب لعمال المناجم خلال العام الماضي (2012)، عندما قتلت الشرطة نحو ثلاثين عاملاً طالبوا بتحسين ظروف العمل وتعديل الأجور، ما يفتح الباب واسعاً أمام التساؤلات حول جدوى الاستفادة من تطبيق العدالة الانتقالية منذ نهاية تسعينيات القرن المنصرم، ومدى تفهُّم السلطة لهذه العدالة بعد أن تحوَّلت البندقية من كتف الشرطي الأبيض إلى كتف الجندي الأسود، في حين أن المفهوم المترسخ هو عدم تكرار الانتهاكات والشروع في عملية إصلاحات واسعة وجذرية للمؤسسات المتهمة بانتهاكات حقوق الإنسان كمصلحة السجون وأجهزة الأمن، وتصل في أحيان كثيرة إلى سلكي النيابة العامة والقضاء. وإذا كانت جنوب إفريقيا هي الأبرز في تجربة العدالة الانتقالية، رغم علَّاتها، فإن تجربة المغرب عن سنوات الجمر والرصاص وتشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة نهاية التسعينيات بدعم مباشر من القصر الملكي لمعالجة الاختفاء القسري والاعتقال لآلاف من المغاربة، حيث قدم المغرب تجربة قيادة السلطة التنفيذية من قِبل المعارضة السياسية، فقد أنجزت الهيئة جزءاً كبيراً من المهام التي أوكلت لها أو تلك التي كان مقرراً لها، رغم النواقص الجوهرية في بعض الأحيان. وتجربة المغرب حَرية بالدراسة واستخلاص الدروس منها، ليس على المستوى المغربي فحسب، بل على المستوى العربي الذي هو في أمسِّ الحاجة في الوقت الراهن إلى قراءات متأنية حول تجارب البلدان التي مرَّت بمعاناة القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، بدءاً بجنوب إفريقيا العنصرية، مروراً بتشيلي التي شطب عسكرها تجربة سلفادور الليندي، وصولاً إلى تجربة الأرجنتين التي حكمها العسكر في الفترة ما بين 1976 إلى 1983، قتلوا خلالها وأخفوا ما يزيد على ثلاثين ألف أرجنتيني بمن فيهم الأطفال الرضع. قد تكون المجتمعات العربية أكثر حاجة من غيرها لتطبيق العدالة الانتقالية في بلدانها.