الحكمةُ حين تزيدُ عن حدِّها تصيرُ خوفاً، والطيبةُ حين تزيدُ عن حدها تصبحُ سذاجةً، ولا يحترمُ القانونَ في زمنِ الفوضى إلا الأغبياء، فحين تكونُ سوريا مستباحةً من حزبِ اللهِ وروسيا وإيران، ويبقى العربُ وحدهم من يحترمون القوانينَ الدوليةَ فهذا هو الجبنُ حين يأتيك مرتدياً ثوبَ الحكمة! فإني على الرغم من محاربتي للطائفيةِ ومقتي لفرزِ الناسِ على أساسٍ مذهبي، غير أني لا أتجاهلُ الشكوكَ متى أصبحت واقعاً، ولا أكونُ ساذجاً إلى درجةِ إنكارِ أن ما يجري في (القصير) هو الطائفيةُ بأعلى درجاتِها، وكم يبدو مؤلماً للشعبِ السوري أن يرى الحالَ معكوساً، فالجلادُ يُعَامَل معاملةَ الضحايا، والضحيةُ تُعامَل معاملةَ الجلادين، والمجرمُ يجدُ من يقفُ معه ويؤازرُه، في حين أن العربَ كعادتهم يكتفون بالفرجةِ من بعيدٍ وكأن الأمرَ لا يعنيهم، فإن أحسُّوا بالخجلِ اكتفوا بالدعوةِ إلى عقدِ الاجتماعاتِ والمؤتمرات، فلا يخرجون منها بغيرِ اللطمِ والمناشدات! من المؤسفِ أن (القصير) قد أصبح مكاناً لتصفيةِ أهلِ السنةِ من قِبل النظامِ السوري مدعوماً من حزبِ اللهِ وروسيا وإيران، بينما تقفُ معظمُ الدولِ العربيةِ موقفَ المتفرج، بانتظارِ حلولٍ تأتي من الخارج، فإنه على الرغم من مُضيِّ أكثر من سنتين على بدايةِ الثورةِ السوريةِ واقترابِ عدد القتلى من المائةِ ألف، غير أن العربَ لم يُدرِكوا بعدُ أن الحلولَ السياسيةَ قد انتهت، وأن الحربَ الدائرةَ هناك قائمةٌ على أساسٍ طائفي، وأن الوعودَ الأمريكيةَ والأوروبيةَ ليست إلا سراباً بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء، فالسياسةُ لا قلبَ لها كما يُقال، وحقوقُ الإنسانِ والقيم عندما تصطدمُ بالمصالحِ يُضرَب بها عرض الحائط! فالذين يزعمون أنهم أصدقاء لسوريا لن يعبأوا بالرقمِ الذي يصلُ إليه عددُ القتلى مهما كان كبيراً، ولا نوعية الأسلحةِ المستخدمةِ مهما كانت محرَّمةً، مادام أنَّ مصالحَهم لم تُمَس، ومادام أن البديلَ لم يُؤمَن بعد، ولذلك فوحدهم الذين يقرأون التاريخَ بطريقةٍ ناعمةٍ يُصدِّقون أن أمريكا وأوروبا سيعملون لأجلِ عيونِ الشعبِ السوري، وبدافعٍ إنسانيٍ بحت، إنما تَدَخُّلُهم سيأتي في اللحظاتِ الأخيرةِ، وحين يكونُ سقوطُ النظامِ حتمياً! فإذا ما أردت أن تعرفَ كيف يفكرُ الآخرون، فما عليك إلا أن تضعَ نفسَك مكانهم، فمن الخطأ أن تقيسَ مشاعرَ الآخرين ومواقفَهم بناءً على أحاسيسِك ومشاعرِك. ولذلك فإني لا أعوِّلُ كثيراً على المواقفِ الأمريكيةِ والأوروبية مهما بدت جادةً، إنما تستفزني مواقفُ العربِ الباردة، إذ لا أدري متى يحرِّكون جيوشَهم ويفتحون مخازنَ أسلحتِهم المكتظةِ بجميعِ أنواعِ الأسلحةِ وآلافِ الصواريخِ والدباباتِ والمدرعات، أو فليُهدوها على الأقل لمقاتلي الجيش الحر المجرَّدين من كلِ شيء عدا الإيمان والإرادة، الذين لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسِهم، حتى أنهم لا يجدون ما ينقلُهم لنجدةِ إخوانِهم في (القصير)، فكلُ ما في أيديهم سياراتٌ مدنيةٌ متهالكةٌ تشعرُ أنها تعملُ بشكلٍ إنساني رأفةً بحالِهم! في حين أن النظامَ مدعومٌ بشتى أنواعِ الأسلحةِ من أنظمةٍ لا تقلٌ عنه جرماً، ويُقَادُ من الضباطِ الإيرانيين والروس، بينما نجدُ جيوشَنا الباسلةَ قد ألِفَت الركودَ في ثكناتها، ومازالت أسلحتُها مكدسةً في المستودعاتِ وعلى وشكِ أن تصدأ، وطائراتها لا تطيرُ في غيرِ أوقاتِ المناسباتِ والاستعراضاتِ والتدريب! فلا أعرفُ ما فائدةُ هذه الجيوش التي لم يحدث أن انتصرت في حربٍ أو استردت أرضاً، مع أنها تكلِّفُ الدولَ العربيةَ أكثر من نصفِ ميزانياتِها! فلو أن طائرةً من طائراتِها التي تسقطُ بلا حرب، وجزءاً يسيراً من أسلحتِها التي تصدأُ بلا استخدام، تم بيعهُا واستثُمِرَت قيمتُها في دعمِ الجيشِ الحرِ، لأمكنه حسم المعركةِ، فقد ثبت مع الوقتِ أن أكثر هذه الجيوش ليست إلا عبئاً على الشعوبِ العربية، وأنها لم تُؤسَّس لحمايةِ الأوطانِ والدفاعِ عنها ضد خطرٍ خارجي، بقدر ما أنها أنشِئت لحمايةِ تلك الأنظمةِ وتدعيمِ قوتِها وجبروتِها وسلطانها، وتكريسِ الخوفِ والجوعِ والقمعِ والاستبدادِ في نفوسِ هذه الشعوبِ، وهذا لا يعني عدمَ وجودِ أنظمةٍ عربيةٍ مخلصةٍ وفاعلةٍ، لكنها ليست إلا الاستثناء الذي يؤكدُ القاعدةَ، بدليلِ أن الشعبَ السوريَ تُرِكَ ليواجِه مصيرَه بنفسِه، وبات كلُ نظامٍ مشغولاً بترميمِ أركانِه المتداعية، حتى إنَّ أكبرَ دولةٍ عربيةٍ صارت عبئاً على العرب، وتبدَّلت مواقفُها إلى درجةِ الشعورِ بأنَّ مِصرَ لم تَعُد هي مِصر!