يُعمِلون أداوت شُغلِهم:«الفقهي» في حرثِ: «الفتوى»، بحيثُ يتوسّلونها مطيّةً لدنيا :«الآخر»، وذلك وَفق مسالك خفيّةٍ تنمُّ – بادي الرأي -عن دهاء يتغوّلُ شيطنةً في سلوكٍ لم يُعرف قبلاً في المتقدمين، إذ يأتي غالبها في صورٍ مِن عملٍ ظاهره :«الفقه» الذي يجعل قِدحهم مُعلّىً فطانةً وسبراً، فيما يشي باطنه بجورٍ يُتوصّلُ به عادةً إلى الظفر بغرضٍ مِن: «حرث الحياة الدنيا»! مبلغُ هذه الطائفة من العلمِ هو: قدْرٌ وافرٌ مِمّا يستطيعون حَمْلَهُ من ضروب: «الحِيل» وتلاعبِها، تلك التي كانَ – ولم يزلْ بعْدُ – شأن مَن يستصحبَها درساً وعملاً التّضخم في داله الفقهي- الموهِم- زوراً، في مقابلِ ما يضمرُ فيه تلقائياً من فقه :«خشية الله»!، في حين أنهم -وفي كلّ حالاتهم -لا يهتدون إلى الفقه سبيلا..، ويمكن لكلّ أحدٍ فينا أن يعرفهم بلحنِ القول. هم العابثون.. فاحذرهم، ذلك أنّ مآلات أفعالهم ستنتهِي بهم ضرورةً إلى حالٍ مزرٍ من المخادعة للشارعِ، إذ يستقوون بزخرف قولهم، على الجرأةِ في ابتغاء الإبطالِ لأحكام الشريعةِ، ثم لا يلبثون دون لأيٍ مِن الاندفاعِ بمكرِ«حيلهم» إلى بذل وسعِ غاياتهم في سبيلِ النقض لمقاصد الشارع. فاحذرهم.. حتى وإن ألبسوا باطلهم ثوباً قشيباً من زور حُسن التّخلص بدعوى:«مصالحَ» صنعوها إرسالاً على أعينهم، بغيةَ أن ينالوا رضا من يحتالون له، ذلك الذي لا يفتأ يستحسُنها منهم/ وله.! وعلى أيّ حالٍ، فإنّ هذه الكتابة، إنما تتجهُ نحو المقبوحين ممن دأبوا على أن يتّخذوا من: «الحيلة» لهم نَفقاً يعبرون من خلاله، وبسرعةٍ فائقةٍ إلى حيث سبيل: «التحيّل الممنوع» وهو الذي تتجه إليه كتابتي هذه، وذلك أنّ ثمّة حيلاً قد يكون باعثها إثبات حقٍ أو دفع باطل. (وتلك مباحث أصولية صرفة ليس من همّنا تناولها الآن) وعليه.. فلن نعدِل عن: «الشاطبي» إلى مَن سواه، حيثُ إنّه من أكثر العلماءِ اعتناء بمباحثِ :»الحيل» وفق رؤيةٍ متكاملة وذات بعدٍ مقاصديّ، وحسبنا أنّه كان كلِفاً بشأنِ: «الحيل» من حيث الإبانةُ عن خطورتها على مقاصد المكلّفين، وشغبِ فقهيّاتِها على شأنِ دينهم!. وحسبك -ثانيةً- بأن الشاطبيَّ كان مِن أكثر من تأذى واقعاً بهذا الفعل الكُبّار من لدن مجايليه، وما من أحدٍ له حظٌّ من النظر في كتبهِ، إلا وسيلحظ أن الشاطبيَّ لم يكن ليدخر وسعاً في مصنفاتِه -وفتاويه بخاصةٍ- من التحذير مرةً بعد أخرى من أثر: «حقيقة التحيّل» الممنوعِ، وما له مِن أثرٍ فاعلٍ على نقضِ مقاصد الشارع وكلّياته. ويمكننا تلمّس ذلك يقينا من خلال ما انتخبه-الشاطبيُّ نفسهُ -من- الألفاظ ودالها، تلك التي قد اصطفاها بكلّ حمولتِها الدّلاليةِ، لأن تكون تعريفاً للحيلِ، وإبانةً لشناعةِ خطرها.. إذ قال: «حقيقتها المشهورة : تقديم عملٍ ظاهر الجواز لإبطالِ حكمٍ شرعيٍّ وتحويله في الظاهر إلى حكمٍ آخر»! وإذن.. فما كان لمثل إمامٍ في المقاصد -بحجم أبي إسحاق الشاطبي- أن يكتف بذلك التعريف وحسب، وهو المشتغل عمره العلميَّ كلّه على: درك المآلات في خطاب الشارع واعتبارِاتها، إذ قال وهو بسياقِ تشنيعه على فقهاء هذا الصنف من أرباب الحيل.. وذلك في موطن آخر من سفره النفيس :»الموافقات» ما يلي: « .. مآل العملِ فيها -أي الحيلة- خرم قواعد الشريعة في الواقع» وليس بخافٍ ، على أن خرمَ قواعدِ الشريعةِ في الواقعِ – وَفقَ تعبير الشاطبي- لا يُمكن أن يؤخذَ هذا الفعلَ المنكرَ بوصفهِ حُسن تدبير-وسياسة شرعيّة- حيث إن الخرم لقواعد الشريعة، هو في حقيقتهِ لا يعدو أن يكون استمراءً لإبطال الأحكام الشرعية بحسبانِها تتأتى تِباعاً في النّقضِ لها حكماً فحكماً، على اعتبار أن بعضاً مِن هذا الاستمراء يرقق بعضه بعضاً. إلى أن يؤول أمرُ جُرم الاشتغال على :»الحيل» إلى اكتساب شرعيةٍ تجعل منه الفعل الصواب مطلقاً، في الأثناء التي يحظى فيه فاعله بألقابٍ ليس أعلاها :»الفقيه -العلامة» فيما يكونُ نصيبُ من يتورّع عن الالتياث بقاذورات: « التفاقه بالحيل».. يكون من نصيبه التوصيف ب:»….» و لئن لم يشأ :»الشاطبيُّ» في آخر مبحثه عن: «الحيل» أن يتركنَا من غير أن يؤكد على أنّ :»التحيّل على الأحكام الشرعية باطلٌ على الجملةِ نظراً إلى المآل» فإنّه يحُرّضنا على أن نبحثَ عن توصيفٍ يكونُ هو الأليقُ بِمَن لا يُعرف عنه إلا الاشتغال على :» فقه الحيل والتحايل» .. ولا أجدُ من الألقاب وصفاً هو الأحقُ به مِن وصفهِ ب:(المحتال) الذي لا يكترث مطلقاً في أنْ يمنح نفسه الحِلَّ مِن أمره في كل حينٍ -ومن غير أن يشعر بأدنى غضاضةٍ- وهو يضع الأحكام الشرعية على وفقِ مقتضى هواهُ ويدير رحى مقاصدها بحسْبِ مصلحته… فلا يغرنّكم منه إذن :سلامة ظاهر تصرّفه ذلك أنّ النّية هي قوام عمله ولُبّه، وإنما عليها تكون المؤاخذة شرعاً. ولقد نبّه عن مثلِ هذا أحد الباحثين النابهين.. فقال:»..إن الحيل الممنوعة لا يقصد بها ما كانت الوسيلة فيه غير مشروعة، فذلك بعيد عن مسمى التّحيل، بل الحيلة المذمومة شرعاً هي ما كانت الوسيلة فيها مشروعة في الأصل، لكن لابسها القصد الفاسد الذي يتخذها وُصلة إلى غرضٍ محرم مضادٍّ لقصد الشارع» خلاصة ما يمكن به قفل المقالة.. أوجزها بالتالي: *الحيل.. واستثمارها في: «فتوى» مداهنةٍ أو مغالبةٍ أو مسايرةٍ أو.. أو.. ..هي باب شرٍّ عظيم تفضي بداهةً إلى إسقاط الحقوق حقاً بعد آخر إذ يتضخّم على إثرها الواجب من غير مستندٍ شرعيٍّ يقوم به الحكم .. كما أنها تُتّخذ ذريعةً في العبث تلاعباً في التصرفات هدراً أو تملكاً. *حيثما كان :« فقه التحايل» فثَمَّ مريض قلبٍ يبتغي الدنيا وما والاها. *قال ابن قدامة:« ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة» أي دون اعتبار لأي مسوّغٍ يحكيه متفقهٌ بين يدي حيلته. *ومضى ابن تيمية إلى أبعدَ من ذلك وبكثيرٍ حيث وكّدّ مراراً على أنّ: «القول بتحريم الحيل قطعيٌّ ليس من مسالك الاجتهاد» وبقول ابن تيمية تتهافت كل دعاوى الاجتهاد التي تتخذ من:«التحيل» الممنوع لها فقهاً وسياسةً شرعيةً.. وبهذا يُسقط ابن تيمية أقنعة الكآفة مِن أرباب المكر والخداع.