في كل أنحاء العالم الحاضر من حولنا، تحصل المرأة على حقها في استخدام المواصلات والتنقل بطرق آمنة ترفعها عن التحرش اللفظي والجسدي من أهون الناس قدراً أخلاقياً في المجتمع، ببساطة متناهية لسيادة القانون. بينما لاتزال النساء في السعودية العاملات والمحتاجات للوصول إلى مقر العمل في السابعة صباحاً وحضور جلسات المحاكم، والمحاضرات الجامعية، ومواعيد المستشفى في السعودية صامتات صابرات بلا مبرر على كل ما شاب آذانهن وخدش حياءهن مراراً وتكراراً من تحرش السائقين اللفظي وربما الجسدي، غير أنني في لندن (مقر دراستي للماجستير) أستطيع أن أصفع مَنْ يشوب أذني بلفظ مبتذل دون أن أجد منه في الغالب أدنى مقاومة أكثر من خجله وإنكاره اللحظي لفعله، وهو أقصى ما سيفعله تجنباً لإثارة مزيد من الهم والغم فوق رأسه، وسيسندني كل المارة، خصوصاً أبناء الجالية المسلمة وسترصد الكاميرات المزروعة في أنحاء لندن الحدث، وسيأتي البوليس في غضون ارتداد طرف البصر، وسيوضع وجه المتحرش على الأرض، وستلف الكلبشات بكلتا يديه من الخلف نحو القضبان، بعدها سنحضر معاً لجلسات المحكمة التي لن تنظر بعين الرحمة لأي ظرف إنساني قاده لهذا السلوك المنحرف. في السعودية تتعرض النساء بكل أطيافهن: متعلمات، أميات، كبيرات، صغيرات، مريضات، صحيحات للتحرش اللفظي غير المبرر في كل مكان يتجمع فيه الرجال الأجانب والوافدون على الأغلب: في السوق، والمستشفى، والبنوك، والإدارات العامة، وغير ذلك وبشكل خاص حينما تعوزهن الحاجة إلى سائق لأنه أكثر مَنْ يستحوذ على جو الخلوة «غير الشرعية».. كثيرون لا يدركون أن التحرش اللفظي يؤذي رهافة أحاسيس المرأة، ويسكب الشوك في شعورها ويجعلها تكبت في نفسها كثيراً من الإهانة والقسوة، لأنها لا تستطيع البوح في مجتمع لن يوفيها حقها، ولأنها ربيت خلال الثلاثين سنة الماضية على أنها قاصر في كل شيء، وأن مَنْ يقودها رجل، فرسخ في أذهان بعضهن أن كل مَنْ حولها أو مَنْ تصادف من الرجال نسخة من قائدها الشهم والطيب ما أسهم في فتح باب الابتزاز بكل أريحية.. الأسوأ من ذلك أن سيادة المتحرش على لغة الحوار وتبلطجه جاء نتيجة بيئة محفزة جداً: النساء في الوضع الراهن أشبه بنمر جريح فقد ذراعيه وأنيابه من قبل دعاة «سد الذرائع».. فقبل أن تجرؤ أية امرأة أن تبصق على متحرش أو تركله بكعب الحذاء، فإنها تفكر ألف مرة عما ستنبشه ردة فعلها من حيوانية أكثر شراسة في ظل غياب القانون، البوليس اللحظي، كاميرات المراقبة، والمسلمين من أشباه مسلمي الجاليات في الغرب، لأن المتحرش في بلدي مسلم شرقي من آسيا أو إفريقيا والجزيرة العربية! بيئة التحرش للأسف في بلد المسلمين الأول بيئة مناسبة لنمو التطرف ضد المرأة وإهانتها على المستوى اللفظي أكثر من الجسدي. وللخروج من هذا المأزق الذي وضعت المرأة عنوة فيه لابد لها أن تكسر قاعدة اهتمام الناس بانتقادها حينما تشكو متحرشاً، ولا تفكر كثيراً في كيفية سعي مجتمع الفضيحة إلباسها التهم والظلم والبهتان واللوم إلى غير ذلك من المتعارف عليه اجتماعياً. لم يعد من المناسب في العصر الراهن الإكتراث بمجتمع أوصل حال المرأة إلى هذا الحد من الإهانة وتركيع حيائها لأظافر شهوة الأجنبي يخدش فيها كيفما يشاء، فضلاً عن السعودي نفسه، فلم نجن نحن النساء أية نتيجة إيجابية من تأطير المرأة منذ ما لا يزيد على ثلاثين سنة تقريباً في أطر من حديد ونار تقلصت وحصرت النساء حتى كادت تكتم أنفاسهن! أما مَنْ يعارض كلامي فعليه أن يسأل نفسه كم مرة باحت له امرأته أو قريبته عن انخداش أحاسيسها مع السائق؟! فيما لو تخيل أحد معارضي قيادة المرأة للسيارة يومهم بلا سيارة، في انتظار سائق « قذر» سواء كان آسيوياً أو إفريقياً أو حتى سعودياً أو يمنياً يعبر بتاكسيه «المظلل» الشارع في حرارة النهار، ثم يستلمه داخل المركبة بكل ما يشبع إيحاءاته الجنسية بين الأبواب المغلقة والمتجهة بالمشوار نحو المكان! أريد أن أرى غليان الغضب والغيرة إلى أية حد سيرتفع على مؤشر الضغط أو مقياس ريختر!! هل سيتخيل أولئك مشاعرهم حينما يكال عليهم كماً من المشاعر الجنسية العابرة تتوافق مع نظرات السائق عبر مرآة السيارة الأمامية، وقد لا تنتهي إلا بلمس الأيادي عند أخذ نقود المشوار؟! لا أعتقد أن رجلاً حراً أو عبداً سيرضى بذلك الكم الساخن من التحرش وهو مجبر على الصمت بسبب عرقلة العباءة والغطوة وضعف القوة الجسدية وقلة الحيلة الخائفة من حصى الرجم الاجتماعية ولكن أن يأتي بعد هذا كله ويرتضيه للنساء خوفاً عليهن! فهذا الاجترار غير المبرر لم يعد منطقياً جداً. نحن نطالب كنساء بالوقوف على هذه القضية المدنية التي لن يحلها سوى قانون صارم يكف اللسان واليد عن المرأة ويعطيها حقها المدني المساوي لحق الرجل في التنقل واستخدام المواصلات. وهذا الوضع المأساوي ما نسمعه من قصص التحرش والابتزاز لم نكن لنصل إليه لولا أن تركت المرأة حرة في تفاعلها مع الحياة الاجتماعية تواجهها منذ نعومة أظافرها بكل قوة وتحدٍ. حالياً فإن ترسيخ ضعف المرأة في ذهن المتحرشين بها من كل الجنسيات التي تقطن السعودية تعود إلى مَنْ قصقص جناحيها وأسكنها القفص وأغلق عليها باب سد الذرائع. كم من امرأة تجلس تحت الشمس في الشارع في مظهر غير حضاري جداً تستجدي بيمينها سيارات الأجرة، وبمجرد دخولها السيارة تبدأ في رحلة المشوار بمغالبة انخداش حيائها حتى تنزل «ولا من شاف ولا من درى»، في المقابل ينعم مَنْ يمنعها من قيادة السيارة بنفسها بمركبته يقودها كيفما شاء، ومتى ما أراد حافظاً أذنه عن سماع كل ما يخدشها وممسكاً يده عن كل مَنْ يلمسها. وإن تجاوزنا مسألة التحرش في التكاسي، فإن استقدام مزيد من السائقين الخاصين لم يعد سوى صب منبع جديد من مخالفي قوانين أنظمة الإقامة والعمل، آلاف السائقين سنوياً يهربون من كفلائهم بمجرد نزولهم أرض السعودية، وذلك بسبب التخطيط المسبق لتفاصيل الإقامة وجني المال والتعاون مع «الأقليات» المتشكلة في البلد من ذات جنسية السائق، خصوصاً القادمين من آسيا. من منزلنا على سبيل المثال هرب ثلاثة سائقين على التوالي ببساطة لأن مكاتب الاستقدام تأخذ حقها المالي ولا تفي بوعودها في احترام البلد أولاً ثم احترام شروط المقدم على الطلب كما لم تطالب من جهة صارمة بأداء واجبها مقابل تجنب العقوبات. على أية حال، فإن الجدل اللامنتهي والمتنطع من قبل المعارضين لقيادة المرأة للسيارة لابد أن يوضع جانباً من الآن فصاعداً فقد أخذ به كثيراً ولفترة من الزمن كممت أفواه النساء عن الحديث ولم تجلب منه أية منفعة مهنية. المتنطعون يبعدون عن دمائنا وأرواحنا وأماكننا وهم مخالفون لمصالحنا ولن يعودوا علينا عملياً بالنفع والفائدة.. لم يفيدوننا سوى بسعيهم في كل محفل بدمج أفكارهم الجنسية «الخليعة» في لغة الخطاب الوعظي فلم يطبقها إلا أرذل المستمعين إليهم وبكل أريحية، لأن المرأة صارت في الذهنية سلعة مستباحة في فضاء اللا قانون مدني صارم وقارس.. الحقيقة أن الأمل في تعقل أولئك لن يأتي أبداً كما أن زمن الانتظار النسائي بدأ ينفد صبره حينما يتعلق الأمر بسن قوانين صارمة ترفع من قدر المرأة وتعينها على استشعارها لمكانتها المساوية للرجل في المجتمع، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة التحرش الجنسي والإيذاء اللفظي والابتزاز اقتداءً بكل العالم من حولنا. الزمن يتجه إجبارياً للمستقبل والمخالفون «حجر العثرة» لمصالحي ومصالح غيري من النساء لأنهم يرتدون إلى الوراء فقط.