«الأونروا» تدعو إلى هدنة فورية «ولو لبضع ساعات» في شمال غزة    اتحاد الجامعات يستهل موسمه ال15 بالشطرنج    الأحوال المدنية تستعرض تجربتها في خدمات توثيق واقعة المواليد والوفيات مع وزارة الصحة في ملتقى الصحة العالمي 2024    أهم الأشخاص المرتبطين بالانتخابات الأمريكية    مشاركة سعودية باجتماع وزراء التجارة والاستثمار في G20    رأسية لابورت تنتزع فوزاً صعباً وثميناً للنصر على الاستقلال    الموافقة على إنشاء كلية للعلوم الطبية في جدة    7116 جولة تفتيشية للالتزام البيئي    محافظ الطائف يستقبل القنصل العام لجمهورية فرنسا    خام برنت يرتفع دولارين ويصل إلى 76.32 دولاراً للبرميل    إيمري يريد «كسر الحواجز» مع أستون فيلا    الطائرة السعودية الإغاثية العاشرة تصل بيروت    الاحتلال يشن غارات ليلية على الضاحية.. وواشنطن تدعو لإنهاء الحرب «سريعاً»    البورد السعودي يضيف 170 برنامجًا صحيًا    افتتاح أعمال "شهر اللغة العربية في فرنسا"    القادسية ومصرف الإنماء.. شراكة عز    أمير الشرقية يوجه بإيجاد حلول لتكدس الشاحنات    مدرب الاتحاد بلان: نحتاج مزيد من الوقت للتفاهم ونخشى توالي الاصابات    ولي العهد وملك الأردن يستعرضان العلاقات الأخوية وملفات أمن المنطقة    وزير الدفاع الإيطالي يستقبل وزير الدفاع ويعقدان اجتماعًا ثنائيًا موسعًا    السجل العقاري يسجل مخطط في جنوب الرياض ويفرزه إلى 3590 صك في 72 ساعة    الجلاجل يدشّن مبادرة ترخيص مطوري البرامج الطبية في مجال الصحة الرقمية    السعودية تستضيف مؤتمر المانحين لدعم النازحين واللاجئين في الساحل وحوض بحيرة تشاد    في زيارته ال11 للمنطقة.. هل ينجح بلينكن في وقف الحرب وإنجاح صفقة الأسرى؟    اعتماد عالمي جديد لمستشفى دله النخيل يدعم مكانة المملكة كوجهة للسياحة العلاجية    34 فناناً سعودياً يستعرضون إبداعاتهم في «مختارات عربية»    بيع 3 صقور في الليلة الخامسة لمزاد نادي الصقور السعودي 2024    الدراسات تظهر تحسّن أكثر من 60٪؜ من مدارس التعليم العام    أمير الشرقية يستقبل رئيس جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    الدفاع المدني يشارك في المعرض المصاحب لأعمال ملتقى الصحة العالمي 2024    البدء بأعمال الصيانة لطريق الظهران -بقيق بطول 16 كلم الخميس المقبل    "التخصصي" في طليعة المؤسسات التي تعزز مكانة المملكة على خارطة السياحة العلاجية    بمجمع إرادة بالرياض.. 10 أوراق علمية تناقش الصحة النفسية في بيئة العمل الأحد المقبل    تقرير أممي: الحرب في غزة تمحو نتائج 69 عامًا من التنمية    الأرصاد: الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    انطلاق أعمال الحوار الحضاري لخطة التعاون 10+10 بين الجامعات الصينية والعربية في شانغهاي    "مفوض الإفتاء في جازان": القران والسنة تحث على تيسير الزواج    أمين التعاون الخليجي»: تصريحات خرازي تدخل سافر في شؤون الدول    أمير القصيم يدشّن مشروع "وقف الوالدين" الخيري في البدائع    شُخصت به في أوج عطائها.. مديرة مدرسة تتحدى المرض وتحصد جائزة «التميز»    الصيف والشتاء.. في سماء أكتوبر    هيئة الأفلام: ملتقى النقد السينمائي في الأحساء    سعود بن نايف يستقبل الشدي المتنازل عن قاتل ابنه    رئيس أرامكو يدعو لوضع خطة محدثة لتحوّل الطاقة تراعي احتياجات الدول    سعود ينتظر الظهور الثالث مع روما في «الدوري الأوروبي»    الذهب لذروة جديدة.. الأوقية فوق 2,729 دولاراً    5 مخاطر مؤكدة للمشروبات الغازية    بأمر خادم الحرمين الشريفين.. ترقية وتعيين (50) قاضياً بديوان المظالم    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان المستجدات الإقليمية والدولية    مُلّاك الإبل والمهتمون: مزاد نجران للإبل يُعزز الموروث الثقافي    31 مليار دولار إيرادات القطاع الزراعي    لكل زمن هيافته    كن ممتناً    لو علمتم ما ينتظركم يا أصحاب البثوث    ختام مسابقة القرآن والسنة في إثيوبيا    الأمير سعود بن نهار يستقبل قائد قاعدة الملك فهد الجوية المعين حديثًا    الرقابي يرفع شكره للقيادة لإقامة مسابقة حفظ القرآن في موريتانيا    الخيانة بئست البطانة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإحساس بالمسؤولية المعرفية
نشر في الشرق يوم 29 - 04 - 2013

لعل البعض يوافق من يصف هذا العصر بموسم الإغراق المعلوماتي، ومما يشهد لهذا الوصف تلك القوائم الطويلة من الرسائل التي لا يكاد ينفك صدورها وورودها المرهق والمزعج من وإلى صناديق بريدنا الإلكتروني صباحا ومساء، ويؤكد هذا الوصف ذلك السيل العرمرم من الرسائل والمعلومات المتبادلة على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، رسائل نصية فورية، تغريدات، وتغريدات معادة، ومتابعات، و»هاشتاقات» ومصطلحات هجينة عجيبة وغريبة، يا له من إغراق معلوماتي لا مفر منه، يلاحقنا، ويرصدنا أينما ذهبنا مستعينا بمئات الملايين من جواسيس الهواتف الذكية التي نحملها بأيدينا!
إغراق معلوماتي ذو وتيرة عجلة ومتسارعة، لا يهدأ، ولا يمل، يؤثر، ويتأثر، ويساهم في تشكيل وتوجيه جوانب كثيرة من الوعي الجمعي، ولكن كثيرا من المراقبين يتساءلون بتوجس وريبة عن نوع هذا الوعي ودرجته وفائدته؟ وهل نستمر على مسارنا، أم لعله بحاجة إلى إعادة نظر، وتصحيح للمسار؟
لا تتأتى الإجابة على هذا التساؤل القلق إلا بعد إجابة سؤال آخر هو الأصل الذي تفرع منه الأول، إن أصل ومصدر هذا الوعي الذي يحمل بصمات وسائل التواصل الاجتماعي هو: المعلومة، فهذا الوعي نتاج لعوامل كثيرة تتصدرها – بلا شك أو ريب – المعلومة، فلكي نصنف هذا الوعي بوصفه: نتيجة، لابد لنا من النظر الناقد إلى المعلومة بوصفها: السبب والمؤثر.
هيا ولننظر إلى المعلومة، ورحلتها، ومحطاتها في خضم ما أسميناه في بدء حديثنا بالإغراق المعلوماتي.
حديث نبوي شريف فيه هدى وموعظة وفائدة، يصادف بعضنا في بريده الإلكتروني مرسلا من صديق أو محولا من صديق لصديق، فيعجبنا، ونريد – بحسن نية وعفوية بريئة – أن نشارك به العشرات أو المئات من أصدقائنا الحقيقيين والافتراضيين في فضاء الشبكة المعلوماتية، ولكي تنتشر الفائدة وتعم نقرر إعادة إرساله إلى أكبر عدد منهم، ويصل البريد إليهم في الحال، وكثير منهم سوف يعيد الكرة، ويرسله إلى مجموعات تلو مجموعات من الأصدقاء والمعارف في أرجاء العالم، وبعد أيام من هذا المد الإعلامي المغرق يصلك اتصال مفاجىء من صديق، ويفاجئك بما يجعلك تندم على فعلك حين أرسلت الحديث إلى أصدقائك وأصدقائهم وأصدقاء أصدقائهم وأصدقاء أصدقاء أصدقائهم…، إن ذلك الحديث موضوع ومكذوب ومفترى على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو – كما تعرف – المبلغ عن رب العالمين!
يتحفك بعض أصدقائك ببريد من نوع آخر، يحوي جداول إحصائية تصنف ظاهرة مجتمعية، وتوجهاً من قبل فئة عمرية محددة، جداول ملونة، ومصنفة، ويُعرض بجانبها أشكال إيضاحية بيانية، ومنحنيات حادة تصف تغيرات مفاجئة وشبه جذرية، إن لغة الأرقام أدعى للتصديق، وأسهل قبولا، ويتكرر ذلك القرار ببداية مد معلوماتي إغراقي قوامه هذه المعلومات ودلالاتها الإحصائية، ويرسل البريد إلى مجموعة من الأصدقاء الذين سوف يرسلونه – كما اعتدنا- إلى غيرهم وغيرهم، وفجأة يرن جرس هاتفك الذكي، وترى على بلورته اسم ذلك الصديق الذي أخبرك بأن الحديث الذي شرق وغرب بالأمس بريده موضوع مكذوب، تحس بالمغص، وتجيبه وأنت تعيد النظر إلى تلك المعلومات الإحصائية التي أرسلتها قبل دقائق، فتبادره بالسؤال عن رأيه فيه، فتفاجئك إجابته بأن الأشكال البيانية لا تتعلق بجدول الأرقام ولا تمثله، إنما هي لدولة أخرى، وبنيت على جدول إحصائي آخر!
خبر عاجل عن مقتل عالمة وباحثة عربية ومسلمة تعمل في الغرب تحت ظروف وملابسات غامضة ومريبة! تتملكنا الغيرة، وتحركنا الحمية، وننفذ ذلك القرار ببدء مد معلوماتي إغراقي، ونرسله، ويعاد إرساله في موجات متنامية ومتتالية خلال لحظات وجيزة، نعم، نعم، إن توقعك صحيح! فلسوف يرن جرس هاتفك الذي بدأ الشك يساورك في حقيقة ذكائه المزعوم، إنه نفس الصديق الناقد والمحلل، فتعاجله بسؤال فيه مرارة وألم: أهذا الخبر مكذوب مثل سابقه؟ ويجيبك: لا، لا، إن الخبر صحيح هذه المرة، فتغالبك كلمات فرحة مستبشرة: الحمد لله، ويواصل الصديق حديثه قائلا: ولكن، هذا الخبر قديم، ووقعت الجريمة قبل عدة سنوات، فلِمَ تزعج الناس والعالم أجمع بخبر قديم؟
امرأة مسخت إلى حيوان مرعب، عدو لدين الإسلام يعتنق الإسلام، خيانات زوجية، فضائح ومخازٍ، أخبار وعجائب، وقصص وغرائب، بشارات، وعطايا، وترقيات، وزيادات، ومنح، آيات قرانية، أحكام فقهية، والموعد المحدد للزلزال القادم، ومعلومات لا حد لها أو نهاية، نرسلها، ونعيد إرسالها عبر وسائل التواصل الاعلامية الحديثة في مد إغراقي مخيف، لكي نكتشف بعدها بأن الخبر ما هو إلا أسطورة وهمية، والآخر آمنية من محبط يائس يتعلق بقشة وهم، والأخبار الأخرى إشاعات وإرجافات، وتُهَم لا نصيب لها من الصحة أو الحقيقة، وتلك الآيات محرفة ناقصة مبتورة، والأحكام مكذوبة، أو تمثل آراء شاذة ومرفوضة!
لا يقلل هذا البحث من فائدة وسائل الاتصال الحديثة، أو يغض من أثرها، ولا يدعو إلى مقاطعتها ورفضها، ولكن الرسالة الكامنة في ثنايا الأمثلة المعروضة ونظائرها هي: التذكير بأمر مهم هو: ضرورة إيجاد وإحياء وتفعيل الإحساس بالمسؤولية المعرفية على المستوى الفردي والجماعي، مسؤولية نستحضرها، وأمانة نتذكرها عند نشر المعلومة، ووعي عميق بأثر المعلومة التي ننقلها ونتناقلها في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيهه.
ألا ما أحوجنا، وما أحوج كل فرد منا، صغيرا أو كبيرا، أن نحيي ونغرس في أنفسنا هذا الإحساس بالمسؤولية المعرفية، إحساس يحرك فينا خلقا إسلاميا وإنسانيا أصيلا هو: التثبت من صحة المعلومة قبل النقل، وقبل المشاركة، وقبل إعادة الإرسال، خلق تعلمناه من كتاب ربنا، وسنة نبينا، وهدي سلفنا، ونهج علمائنا وحكمائنا وفضلائنا في القديم والحديث.
يندرج هذا الخلق تحت آداب طلب العلم التي ينبغي تحلي طالب العلم بها، ولا يشك منصف أن الحرص على التثبت من العلم قبل نقله (مع إخلاص النية في كل ذلك لوجه الله تعالى) من شروط حصول بركة وأجر وشرف طلب العلم ونشره وتعليمه، والمتأمل في الأحاديث النبوية الشريفة في فضل العلم وطلبه وتعليمه للناس وتوريثه يرى تصديقا وتأييدا لهذا الشرط المستنبط، فانظر إلى دقة الوصف في بعض الأمثلة التي يوردها حديث الصدقة الجارية: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) رواه الإمام مسلم في صحيحه، فالانتفاع من العلم شرط من شروط حصول أجره، ولا يتصور الانتفاع من علم غير ثابت أو مشكوك في صحة محتواه أو سنده.
ولنتأمل وضوح الوصف في الحديث الآخر الذي يصف استغفار الله والمخلوقات والملائكة لحامل العلم ومعلمه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) رواه الإمام الترمذي، وقال حسن غريب، وحسنه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح وصحيح الترغيب والترهيب، ولذا فما كل معلم مأجور، فلا يحصل الأجر إلا إذا كان العلم نافعا وهاديا إلى الخير.
ولعلنا نستنتج قياسا على هذين الحديثين وغيرهما أن إثم العلم الضار ووزره من عمل به قد يؤذي صاحبه ويكتب عليه حتى بعد موته، وكذا فلعل المخلوقات المأمورة بالاستغفار لمعلم الناس الخير تدعو – والله أعلم – بالويل والثبور والخسران واللعن على معلم الناس الشر، ومن صور الشر التي قد نغفل عنها: الأخبار المكذوبة والمعلومات المشكوك في نسبتها وصحتها.
إن فيما سبق ذكره تحذير مخيف لأولئك الذين ينقلون العلم والمعلومات بلا تثبت وبغير توثق، وبيان مغبة هذا الفعل وعاقبته وإثمه الذي قد يلاحق صاحبه حتى بعد موته.
لا يخفى علينا المنافع الجمة لإحياء هذا الإحساس وتفعيله في واقعنا وممارساتنا التواصلية والمعلوماتية، فالمعلومة الصحيحة الموثقة المثبتة علم قد نؤجر بتعلمه ونشره، وهي خير أساس لتشكيل وعينا الجمعي، والمعلومة الصحيحة تساهم وتنتج وعيا صحيحا ومتزنا، والمعلومة الصحيحة تثري القيمة المضافة للمحتوى المعلوماتي الرقمي، والمعلومة الصحيحة الموثوقة من أهم اللبنات في الجسر الذي نحتاجه في نقلتنا ورحلتنا المأمولة من: مجرد متفرجين ومستهلكين للمعرفة إلى: مصنعين ومنتجين أصلاء للمعرفة النافعة والخيرة، معرفة صحيحة ويوثق بها، معرفة ثمرتها الوعي الصحيح والمتنامي والفاعل والمغير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.