ناصر بن عثمان آل عثمان ثارت العقول على الكنيسة عندما كانت التبعية لها قديماً تُوْرِثُ الدَعَة والجهل فكانت الليبرالية العِلّمِيّة والعلمانية الديمقراطية خياراً للشعوب الغربية، ولو اختلفنا معهم في المضامين أو كرهنا شيئاً من التفاصيل، إلا أن العقول الغربية حين أرادت أن تنفض عن أطرافها غطاء التبعيةّ الممقوتة اهتدت إلى هذه السُبُل، فظهروا لنا من حضيض الأرض لنراهم الآن على عرش الوجود؛ حيث ليس لنا «نحن العرب» أي وجود، وبقينا على هامش الحياة في باحات الاستهلاك والانشغال بأخبار السياسات الداخلية، أو تمجيد القبليّة الجاهلية تضليلاً وإذلالاً لأمةٍ خلَّد التاريخ الماضي أمجادها وعزف عن ترَّهات حاضرها وأخبارها، إنها تبعيّةٌ لم نخرج عن حدودها بعد، وبوتقةٌ مازلنا ندور في محيطها مُكرهين على تجرع غصص الخوض في معترك الماضي، وكأنني بماضينا يقول لنا صباحَ مساء «أنا يوم الأمس وأنتم أبناء اليوم.. فلماذا لا تصنعون تاريخ الغد؟!». لقد أنشأ الغرب على أنقاض حضارتنا التي دمّرناها بأيدينا قواعد متينة على أطلال ماضينا ليقول لنا «أيها العربي ماذا تُريد؟» نعم قالوا هكذا؛ لأننا ضيعنا تراث ابن سينا وابن حيان وغيرهما واستبدلناه بمهرجانات اللهو والغناء حتى قال شاعِرنا محمود غنيم رحمه الله: إني تذكرتُ والذكرى مؤرقةٌ مجداً تليداً بأيدينا أضعناهُ كم صرَّفتنا يدٌ كنا نُصرِّفها وباتَ يملكنا شعبٌ ملكناهُ نحن أمةٌ لوجودها سبب، ولتحقيق ذلك السبب يجب أن تُرسم الأهداف والخطط وتُنشأ المؤسسات والهيئات والمصانع والجامعات، لكننا مع الأسف أمة تعيش على أنقاض الأمثال القديمة، ولا تسمح للعقول الفتيّة أن تقول ما لديها.. لذلك نحن أمة مُكبَّلة بأغلال التبعيَة، لقد ظلمنا أنفسنا فتخلّفنا عن ركب الوجود بسبب وابلٍ من الخُطب التي لا تحمل في طياتها غير ذكرى الآخرة بعيداً عن صناعة الحياة وعمارتها وتحقيق الأمجاد على صفحاتها. إننا ضعفاء على كافة الأصعدة والمستويات لأننا لا نسمع على المنابر مع خُطب الوعظ والإرشاد الديني خُطباً تدعو شبابنا إلى العمل في المصانع ومجالات الإبداع والاختراع وترجمة المؤلفات وقراءة الواقع وبحث أسباب القوة وجلبها ودفع عجلة التنمية والتشجيع على الفتوّة، وسوف نبقى متأخرين لأننا نتلقى جرعات الجهل بأسباب الرفعة في الدنيا على مستوى الأفراد، بينما يجيد المتصوفون إجبارنا على الإنصات إلى خُطب الرضا بالواقع دون تحليل مضمونه أو قراءة تفاصيله أو الإسهام في تعديل فقراته.. فقط لأنهم امتلكوا عواطفنا. لقد فشل العرب في تمييزهم بين الخطاب العاطفي وبين الخطاب العقلاني، حتى أصبح العقل العربي عاطفياً، لا عقلانياً متزناً ولا جاهلاً خامداً، ونتج عن هذا حروب مستمرة فيما بين العرب؛ لأنهم لم يهتدوا إلى تحكيم العقول بعيداً عن العواطف، ولم يعتادوا على مخاطبة العقول التي هي مكامن الإرشاد والفقه بالواقع بعيداً عن العواطف التي تجرهم إلى تحقيق أهداف الأعداء من حيث لا يعلمون، لم يحصد الإنسان العربي بعد أن أضاع مجد ماضيه وعاش خيبة حاضره جرّاء هذه الفلسفة الحياتية التي سردنا بعض ملامحها إلا أفكاراً مُعطلة، وعقولاً مُجمدة وينابيع للمعرفةِ ملوثةً.نحن أمة لديها كل مقومات السيادة لو فَقِهنا، فنحن مأمورون بالتنوير عَبْر رسالة « اقرأ»، ومدعوون إلى تأمل الوقائع والآيات والأحداث عبْر خطاب «ليتدبروا»، ومُطالبون بإعداد القوة والتجويد والإتقان في رسالةٍ ضمنية واضحة التفسير مفادها «وأعِدّوا»، ولتستقيم أمور الدنيا أرشدنا فقال جل في عُلاه «وأعدِلوا»؛ لأن التنوير مع الفقه والبصيرة حِكْمَة، والحِكمة مع القوة والعَدْل ركائز حياةٍ شريفة وعِزة كريمة وهيبة حكيمة تؤدي إلى رِفعةٍ وتطور لا يُستثنى منه أحد، ولكن دعوني أعود إلى الواقع الحقيقي للأمة العربية قبل ثورات الربيع العربي، هل كنتم تسمعون غير خطاب «اسمعوا وأطيعوا؟» لقد آمن بعضهم ببعض الكتاب وكفر ببعضه، ليس لشيء إنما تعبئة لمنهج التبعيّة الممقوتة وتوثيق لأغلالها. ليت العرب يفقهون درساً عرفه الغرب بعد حقبةٍ زمنية ليست بقصيرة يملأها حروب داخلية وقتال شرس راح ضحاياه كثير من الأنفس البشرية والبنية التحتية وما إلى ذلك، لقد اكتشفوا بعد هذا كله بالإجماع أن الحرب والتشرذم شتات وأن السِلم والتطور قوّة، بينما الإنسان العربي مازال يؤمن إيماناً فردياً بمقولة «فَرّق تَسُد» سيادةً وهميّةً مكذوبة، مصالحها فردية، ومساوئها ماحقة ساحقة، هلكت بسببها أمتنا العربية… وليتهم يبحثون لأنفسهم «العرب» عن حلول لفك أغلال التبعيّة، فقد تحرر الغرب من أغلالها منذ زمن، وصار نجماً لامعاً عَبْر حلول جماعيّة، وتتضمن روحه عقولاً فتيّة.