غيَّبَ الموت في الأيام الماضية، المفكر المصري جمال البنا، عن عمر ناهز 93 عاماً، بعد أن أصدر أكثر من 150 كتاباً، وعديداً من المقالات والحوارات الجدلية في قضايا إسلامية متعددة، ويختلف جمال بشكل واسع مع فكر جماعة الإخوان المسلمين، التي أسَّسَها شقيقه، الرمز الإسلامي الكبير، حسن البنا. صدر أول كتاب لجمال البنا بعنوان (ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد) عام 1945م، وكان عمرُه وقتَها 25 عاماً، وفي العام التالي أصدر كتابه الثاني (ديمقراطية جديدة) واستمر في التأليف حتى وفاته. ومن مؤلفاته رحمه الله: (على هامش المفاوضات)، (المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء)، (الحجاب)، (جواز إمامة المرأة الرجال)، (قضية الفقه الجديد)، (الإسلام والعقلانية)، (حرية الاعتقاد في الإسلام)، (الأصول الفكرية للدولة الإسلامية)، (ما بعد الإخوان المسلمين)، (مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث)، (قيمة العدل في الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي)، (نحو فقه جديد 3 أجزاء) (الإسلام هو الحل)، (الجمع بين الصلاتين)، (الإيمان بالله)، (إيماننا)، (أخت الصلاة المهجورة)، (رسالة إلى الدعوات الإسلامية المعاصرة)، (خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه)، (البرنامج الإسلامي)، (كلا ثم كلا)، (العودة إلى القرآن)، (الربا)، (قضية الحرية في الإسلام)، (سيادة القانون والحكم بالقرآن)، (هل يمكن تطبيق الشريعة؟)، (الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة)، (الجهاد)، (تفسير القرآن الكريم بين القدامى والمحدثين)، (تفنيد دعوى حد الردة)، (تفنيد دعوى النسخ في القرآن)، (روح الإسلام)، (تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم)، وكتب في قضايا العمال والإنتاج وغيرها من المجالات. عكف جمال البنا منذ طفولته، على الاطلاع، وبعد أن أتمَّ دراسته الابتدائية، التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، لكنه ترك الدراسة بسبب خلاف مع مدرس اللغة الإنجليزية، فأكمل تعليمه بوسائله الخاصة. أسَّسَ جمال البنا سنة 1953 (الجمعية المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم)، وكان له اهتمام خاص وواسع بقضايا العمل النقابي، توجَّه بتأسيس (الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل) عام 1981م، بعد أن استعانت به منظمة العمل الدولية في عدد من الترجمات، ومنظمة العمل العربية كخبير استشاري. وقد عمل محاضرًا في الجامعة العمالية والمعاهد المتخصصة منذ سنة 1963م، وحتى سنة 1993م. كما عمل خبيراً بمنظمة العمل العربية. وفي سنة 1997 أسَّسَ مع شقيقته فوزية البنا، مؤسسة (فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي)، وهي دار نشر ومكتبة إسلامية ضخمة، تحوي أكثر من عشرة آلاف كتاب بالعربية، وثلاثة آلاف بالإنجليزية. وأسَّسَ جمال دعوته الإحيائية النهضوية التي تقوم على تأسيس الفكر الإسلامي على منهج وأسس جديدة، أسماها (الإحياء الإسلامي) وقد ضمنها خلاصة فكره. وقال عنها: «لما كانت دعوة الإحياء الإسلامي تياراً فكريًّا ونظرية في فهم الإسلام. فإنَّها تصبح ملكاً لكل مَن يؤمن بها، فالأفكار لا تكون موضوعاً للاحتكار، وما إن ينشرها صاحبها الأول حتى تصبح ملكاً للجميع. ومع أنَّنَا حرصنا قدر الطاقة على الكمال فإن هذا لا يمنع من ظهور مَن يقدم لهذه الدعوة إضافة تُثريها أو يكشف مأخذاً فيها». ويعتبر جمال البنا القرآنَ الكريمَ «صيحة إنقاذ، ودعوة هداية وإرادة تغيير ورسالة، ويدعو إلى «تثوير القرآن وليس تفسير القرآن». وقد سعى إلى الانتقال بهذه الدعوة من التنظير إلى التطبيق، بجرأة جلبت له خصومات فكرية وفقهية واسعة. ورغم ذلك، كان جمال البنا بعكس ما يصوره بعض خصومه شديد الوفاء للحضارة الإسلاميَّة، ومهموماً بقضيَّة نهضة المسلمين، ودور الأمَّة في دورة الحضارة الإنسانيَّة، وكان كثير الاستغراق في مشكلة العولمة باعتبارها آخر صيحة للنظام الرأسمالي، بعد الغزو العسكري لنهب موارد المستعمرات، ثمَّ الشراكة في إقامة المؤسَّسَات الصناعية والتجارية، ويقول عنها في كتابه (استراتيجية الدعوة الإسلامية في القرن ال 21)، إنها أي العولمة «جندت ثلاثة فيالق لا يمكن لأي دولة أن تقف أمامَها، وهي اختراق البورصات والانتقال المفتوح لرؤوس الأموال، وغزو السلع والمنتجات لأسواق العالم في ظل «الجات» وبنود منظمة التجارة العالمية، والإعلام المعتمد على الأقمار الصناعية، الذي يقوم بالغزو الفكري والنفسي لفلسفة العولمة، بحيث يمكن في النهاية أن يأكل العالم كله الهامبورجر، ويشرب الكوكاكولا، ويلبس الجينز، ويشاهد الأفلام الأمريكية». لكن البنا في ذات الوقت يؤكد على الحصانة التي يتمتع بها المجتمع المسلم، ويقول «كل الأديان والنظم عجزت عن توحيد العالم كله، وأن قوى الدين واللغة والتراث والخصائص ستقف أمام طوفان العولمة، بحيث لا يمكن الاستحواذ على الإنسان الإفريقي أو الآسيوي، وبوجه خاص الإنسان المسلم، الذي يقدم له الإسلام أكبر حصانة من الإذابة». ويقول في كتابه (كلا ثم كلا): «نحن من دعاة إحكام اللغات الأجنبية والاطلاع على الثقافة الأوروبية، ولكنَّ هناك فرقاً بين أن نحكمها لحساب ثقافتنا الخاصة، وبين أن نحكمها على حساب ثقافتنا الخاصة. والمفروض أن نلم بكل الثقافات والمعارف؛ لأنَّها جزءٌ من الحكمة التي هي هدفنا، والتي تدخل في مكونات الإسلام». ويتوقع البنا أن يكون للاشتراكيَّة جولة أخرى؛ لأنَّ وجودها أمر جدلي بالنسبة للرأسمالية. ويدعو إلى التصالح مع العلمانية، ولا يرى أي تعارض بين العلمانية والإسلام في بعض الجوانب، ويؤكد أنها إن اختلفت مع الإسلام في أمور، لكن تظل لها أهمية حتى لا يطغى التدين الأخروي على التدين الدنيوي! وفي كتابه (أصول الشريعة) يعتبر جمال البنا «الحكمة» مصدراً من مصادر الفقه، بل هي أصل من أصول الإسلام، ويعيب على الفقهاء إهمالَهم لها. ويقول في معرض حثه للانخراط والتفاعل مع ثورة العلم والمعرفة: «ثورة المعرفة في العصر الحديث وتدفقها من أربعة أركان، ووصولها عبر المطابع والقنوات الفضائية والإنترنت وخدمات التصنيف، وضع تحت أيدي البحاث كلَّ كنوز العالم القديم، وكل مستجدات العصر الحديث، بحيث أصبح (الكتاب) أي القرآن يمثل دليل العمل والإطار العريض للخطوط الرئيسة، أما ما يملأ الحياة فهي هذه العلوم والفنون والمعارف التي تتدفق فيما يشبه الفيضان من كل الدول المتقدمة، وأصبحت رمز ثروة وقوة العصر الحديث». وكان يحدوه الأمل في أن تجد دعوته للإحياء طريقها للتأثير في العالم الإسلامي لتعود الشعوب المسلمة عاملة ناهضة، فكتب في الصفحة الرئيسة لموقعه على الإنترنت: «إلى كل الذين يؤمنون أنَّ الإسلام رسالة، والذين يؤرقهم التساؤل (لماذا؟ وكيف؟ وإلى متى؟)، نقول لا تيأسوا. لقد رسمنا الطريق، وبدأنا المسيرة، وندعوكم للمشاركة». وفي حوار صحفي في مارس 2006م نشرته (العربية) يقول البنا إنه لا حاجة الآن للحجاب؛ لأنه يعوق المرأة عن حياتها العملية، وأنه لا يوجد في الاسلام ما يؤكد فرضيته. وأنَّ الحجاب فُرض على الإسلام ولم يفرضه الإسلام؛ لأنَّ شعر المرأة ليس عورة، بل يمكنها أن تؤدي صلاتها بمفردها وهي كاشفة الشعر. وقال: إنَّ الاختلاط ضرورة، حتى لو حدثت بعض الأخطاء، فالإنسان عندما تصدمه سيارة في الشارع، لا يكون ذلك مدعاة لإلغاء السير فيه. وقال إنَّه لا يستسيغ عزل النساء عن الرجال، بينما التطورات الحالية تفرض لهن حقوقاً سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة مساويةً للرجال، وتساءل: كيف نعزل وزيرة عن بقية الوزراء لأنها أنثى؟ لا يوجد أبداً في الكتاب والسنَّة ما يقول ذلك، وهناك حديث في صحيح البخاري بأن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، من حوض واحد في وقت واحد، فكيف إذن تتوضأ المرأة وهي مقنعة مرتدية ذلك اللباس الذي يجعلها شبحاً أسود؟. كيف تغسل وجهها وقدميها ويديها إلى المرفقين، وكيف تمسح على شعرها؟ لقد استمر هذا الوضع طيلة حياة الرسول وفي جزء من خلاقة أبي بكر الصديق وجزء من خلافة عمر الذي فصل بين الرجال والنساء في الوضوء من مكان واحد. ويقول إن الحجاب أبداً لم يكن عقيدة أو شريعة بل مجرَّدَ عادات، إنه موجود من قبل الاسلام بألفي عام، نراه في كتاب حمورابي، وفي أثينا في عهد أفلاطون وأرسطو حيث كان يُنظَر إلى المرأة على أنها من الحريم، كذلك ركزت اليهودية على الحجاب بشكل مكثَّف وأيدته المسيحية أيضاً. وقال: كان الحجاب موجوداً في العالم كله على أساس أنها مجتمعات ذكورية خصصت المرأة للبيت والرجل للعمل وكسب الرزق، ولم يكن ذلك مزعجاً للمرأة لأنها وجدت في الأمومة ما يعوضها، لكن مع تطور الحياة في العصر الحديث ونمو فكرة الإنسان وأن المرأة إنسان أيضاً، تغيرت مشاعرها وبدأت تطالب بحقها كإنسان، واقتضى ذلك دخولها مجال العمل ومشاركتها في العمل السياسي مثل الرجل تماماً، ومن ثم أصبح لا ضرورة للحجاب الذي يحمل معنيين، أن تحتجب في البيت، أو أن تغطي شعرها فقط أو شعرها ووجهها وهو ما يسمى في هذه الحالة بالنقاب. وقال: القرآن عندما قال «ولَيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيوبِهنَّ» كان ذلك في إطار الحديث عن لباس اجتماعي سائد في ذلك الوقت، فالرجال يلبسون العمائم والنساء تختمر لتقي المرأة نفسها من التراب أو من الشمس، وبالتالي فالمسألة لا علاقة لها بالدين، ومن هنا أمر القرآن أن تسد المرأة فتحة الصدر بالخمار الذي كانت ترتديه كعادة اجتماعية، ولم يقل إنَّه من الضروري أن يغطَّى الرأس.القرآن ليس فيه آية واحدة تحث على الحجاب إلا بالنسبة لزوجات الرسول، وهو ليس زيًّا وإنما باب أو ستار. الإسلام لا يطلب من المرأة أن تغطي شعرها أو تنزع ذلك الغطاء، هذا ليس شأنه، وإنما يدخل في إطار حقوقها الشخصية. ويقول: إذا وجدت المرأة المسلمة في المجتمع الأوروبي حرجاً من كشف شعرها، فلتلبس «برنيطة» (قبعة) ولا تلبس ما يسمى بالحجاب الإسلامي الذي سيعزل بينها وبين المجتمع. فالحكمة من الحجاب هي «ذَلِكَ أَدْنَى أنْ يُعرَفْنَ فَلا يُؤذَيْن» ليعرف الناس أنهن محتشمات فلا يتعرضن للأذى، الآن المحجبات في الغرب يتعرضن للأذى. وعن الحكم الفقهي المتوارث الذي يمنح الرجل حق الطلاق يقول البنا: لا يجوز مطلقاً للرجل أن يطلق منفرداً، لأنه تزوج بصفة رضائية، ولذلك تقتضي صحة الطلاق رضا الاثنين واتفاقهما على الانفصال، ولكن أن يقوم بتخريب بيتها وتدمير حياتها ويحرمها من أولادها فهذا منتهى الإجرام والظلم. الطلاق يتم باتفاق تتقبله المرأة. ويشدد على أن المرأة تساوي الرجل (شقائق الرجال) لكن التمييز يكون لاختلافات التكوين، (ولهن مثل الذي عليهن وللرجال عليهن درجة) وقال: هذه الدرجة موجودة الآن في أمريكا، فلا يوجد هناك مساواة كاملة في الوظائف وقيادة الجيش، وتقريباً هذه الدرجة خاصة بالنواحي البدنية. ويرى أنه يجوز للمرأة أن تؤم الرجال في الصلاة إذا كانت أكثر علماً بالقرآن، وقال: لقد ألفت كتاب (جواز إمامة المرأة الرجال) وهو يتضمن ذلك. فالإمامة عملية تحتاج إلى مؤهل وليست حقاً فطريًّا، وقد وضع الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا المؤهل وهو العلم بالقرآن، فجعل صبيًّا يؤم قومه بمن فيهم الشيوخ لأنه كان أعلمهم بالقرآن، وجعل مولى (أي عبداً) يؤم الصحابة كلهم وكان من بينهم أبو بكر وعمر. فإذا كانت المرأة أعلم ممن تؤمهم فهي أحق بالإمامة، ولكنها تغطي شعرها، فهي هنا في صلاة جماعة، وبالتالي فإنَّ الأمر بالنسبة لغطاء الشعر يختلف فيما لوكانت تصلي بمفردها، فصلاة الجماعة تحتاج إلى الضوابط وبالطبع لا توجد من ستصلي إماماً بالناس وشعرها مكشوفٌ. وفي نقده المتواصل للتسليم بالموروث الفقهي، يقول البنا: من أكبر أسباب التخلف سوء فهم الإسلام وقد أدت إساءة فهمه إلى تدهور المجتمع، وجاءت هذه الإساءة من الاعتماد كلياً على ما فهمه عبر الأسلاف، وما وضعوه من القواعد والمبادئ لمنظومة المعرفة الإسلامية من تفسير أو حديث أو فقه منذ أكثر من ألف عام. ومع التقليد جاء الغباء وصدأ العقل المسلم». ويقول: «لا تحرر إلا بالتحرر من التراث الفقهي، والعودة إلى القرآن نفسه، وعدم الاعتداد بالمفسرين، من ابن عباس حتى سيد قطب، وضبط السنة بمعايير من القرآن الكريم». لقد أثار الراحل الخلاف والجدال والخصومة الفكريَّة بآرائه الفقهية الغريبة، مثل إباحة التدخين في نهار رمضان، وإباحة القبلات الغرامية بين الشباب والشابات، وعدم جواز انفراد الرجل بقرار الطلاق، وقضايا أخرى سبقه إليها آخرون، مثل التشكيك في الحجية التي يتمتع بها كتاب البخاري، وإنكار الحكم الفقهي بقتل المرتد عن الإسلام، وإمامة المرأة للرجال في الصلاة، وغيرها، فتصدى له كثير من الفقهاء المعاصرين، منهم نائب رئيس مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وأستاذ الفقه والأصول البروفيسور علي السالوس وغيره.