تعدّ حرية الرأي حقاً مكتسباً لأي إنسان في هذا الوجود في وقتنا الحاضر، وتقارب في حالات كثيرة الهواء الذي يتنفسه، فلا يمكن ممارسة العيش بكرامة في ظل حرية رأي منتقصة أو مشوهة، وهي من المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان في عدد من الحضارات والثقافات على مر التاريخ، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 19 على أن «لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأي وسيلة، ودونما اعتبار للحدود». بعد هذه المقدمة ذات البعد التنظيري دعونا نسبر جزءاً من واقعنا في هذا الجانب، لنجد أنه يتبين بشكل واضح -خاصة في السنوات الأخيرة، ومع الانفتاح الإعلامي الكبير، وظهور الإعلام الحديث، الذي تصعب رقابته بشكل كبير، وكذلك ارتفاع سقف الحريات في صحافتنا الورقية- أن كلاً من التيارات الموجودة على السطح بشكل عام تؤيد حرية رأي مجتزأة، بحيث إن لها الحق في التعبير عمّا تريد في مقابل إسكات أصوات الآخرين. وهذا -مع الأسف- أمر مستساغ حتى في التيارات التي تقدم نفسها على أنها تدعم الحريات الفردية، كتيار «الإصلاح الاجتماعي بالمفاهيم الغربية»، فهذا التيار يدعو إلى مزيد من الحريات، وبمجرد صدور قرار من السلطات بتقييد الحريات، تجدهم يسوغون إلى هذا القرار بالأسباب والوسائل كافة؛ لاعتقادهم أن القرار سيقيد حريات الآخرين. والأمر كذلك ينطبق على تيار «سلفية المدينة»، الذي يرى أن أي انتقاد للقرارات الحكومية هو خط أحمر لا يمكن تجاوزه، ويطالبون بإسكات الأصوات المعارضة، لهم لدرجة اتهامهم «بالخروج على ولي الأمر». أما تيار «الصحوة» بشقيه، سواء الشق التابع للمؤسسة الحكومية أو المستقل عنها، تجد أنه كان يمارس في العقود الماضية التوجه نفسه، وهو إسكات أصوات الآخرين بجميع الوسائل والطرق. فالذي يظهر أنه مشكلة مرتبطة بثقافتنا المحلية في ممارسة «إرهاب فكري»، وآمل ألّا يخرج علينا أحد الأطباء ويقول إن ذلك جزء من جينات شعبنا! المشكلة في نظري لا تكمن في آراء من تيارات مختلفة، وإنما المشكلة العظمى هي الاستقواء بالسياسي أحياناً لتقييد حريات الآخرين بناء على وجهات نظر فردية؛ من أجل منع أحد ما من الكتابة، أو حجب موقعه الإلكتروني وهكذا. في ظل هذا الواقع، أين النصوص القانونية التي تحمي حرية الرأي؟ وهل هنالك آليات لتطبيقها؟ النص الأهم في هذا الجانب هو نص المادة 26 من النظام الأساسي للحكم، التي تنص على أن «تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية». فهذا النص العام يؤصل أن الدولة بسلطاتها كافة تحمي حقوق الإنسان وفق الشريعة، فهي لا تسمح بهذه الحقوق فقط، وإنما تحميها، ولا شك أن حرية الرأي أحد هذه الحقوق، والقصة المشهورة تدعم هذا الحق، وفيها أنه «بُعث إلى عمر بحلل فقسمها، فأصاب كل رجل ثوباً، ثم صعد المنبر وعليه حلة -والحلة ثوبان-، فقال (أيها الناس، ألا تسمعون؟!)، فقال سلمان (لا نسمع)، فقال عمر (لِمَ يا أبا عبدالله؟!)، قال (إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حلة)، فقال (لا تعجل يا أبا عبدالله)، ثم نادى (يا عبدالله)، فلم يجبه أحد، فقال (يا عبدالله بن عمر)، فقال (لبيك يا أمير المؤمنين)، فقال (نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟)، قال (اللهم نعم)، قال سلمان (فقل، الآن نسمع)»، فلم ينكر أحد على سلمان لاعتراضه على عمر -رضي الله عنه-، بينما ينص الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي وقّعت عليه المملكة في المادة 32 منه على أن «يضمن هذا الميثاق الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير، وكذلك الحق في استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة، ودونما اعتبار للحدود الجغرافية». وفي المقابل، لا يمكن أن تصبح حرية الرأي بلا ضوابط، ومن غير قوانين تخضع لها، وإنما في ظني أنه لابد أن تدعم حرية الرأي لتكون هي الأصل، وتخضع لقوانين البلد، بحيث إنه في حالة تجاوز أي قانون تكون المحاسبة من قبل سلطة قضائية ذات استقلالية واضحة، وفي الوقت نفسه تخضع التشريعات للرقابة الدستورية للقضاء، بحيث يسند الاختصاص الدستوري للمحكمة العليا، أو إيجاد محكمة دستورية. بهذا الشكل ندعم العمل المؤسساتي في بلادنا، ونحفظ حق الجميع في حرية التعبير بآرائهم.