قضيت زمناً من عمري أنافح عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كونها الأداة التي تُطبق بها شعيرة الاحتساب، قصص كثيرة تُتَداول عن تجاوزات الهيئة تحمل مبالغة في أحيانٍ وواقعية في أحيان أُخَر، ونحن نلتمس للهيئة في كل مرةٍ العذر، حتى تشابهت الأعذار علينا. النظرة إلى الهيئة كانت وما زالت متطرفة في الغالب، فإما أن تجد المتحامل كل التحامل، وإما أن تجد المناصر كل المناصرة، حتى صار الموقف من الهيئة عند كثيرين معياراً تصنيفياً بين الإسلامي والليبرالي، بين عدو الدين و»صديق الدين»، وقلَّ المنصفون في حقها، لأنهم أيضاً لا يسلمون من التصنيف. حاولت هنا أن أُشخّص موطن الخلل متوخِّياً الموازنة -قدر جهدي- بين النظرة الإسلامية التي تؤمن بالوصاية الدينية (الظاهرية) مبدأ قانونياً شرعياً، وبين النظرة الإسلامية نفسها التي ترفض الظلم والأذى، ولا تجعل الدين مطيَّةً لإيقاعهما على الناس، وخرجت من النظرتين كلتيهما بوجوب إدخال تغييرات جذرية على جهاز الهيئة، سأختصرها فيما يأتي: -1 من ناحية النظام: تتمتع الهيئة بنظام فضفاض، ألفاظه عامة، ويَسهُل في كثير من الأحيان تكييفه ليبرر أخطاء بعض أفراد الجهاز، فالاجتهادات الفردية تتطاير أحياناً يميناً وشمالاً لتمس كرامات الناس وحرياتهم، مغلّفةً ذلك باسم الدين؛ فتؤذي المجتمع وتسيء للتيار المتدين بوجه عام، وبإعادة صياغة النظام بشكل احترافي مفصّل سينتفي كثير من الإشكال الحاصل الآن. -2 من ناحية إعداد الكوادر: بعض أفراد الهيئة يحتاج -كأي رجل أمنٍ- إلى دورات مكثفة في مجال عمله، كعلوم أصول الدعوة والسياسة الشرعية ومقاصد الشريعة، كما يجب (وأكررها ثلاثاً) أن ينال قسطاً كافياً من العلم بنظريات القانون والحقوق، وخصوصاً العلم التام والالتزام بنظام الإجراءات الجزائية الذي لا يجيز تفتيش الممتلكات الشخصية ولا تنفيذ المداهمات ولا القبض إلا بإذن خاص، فهذا لو تحقق لسَلِم المجتمع من الأخطاء الاجتهادية وسلمت الهيئة من النقد. -3 من ناحية الزي: لا شك في مشروعية الاحتساب غير الإلزامي كالنصيحة العابرة، لكن قيام فرد من عامة الناس بانتحال شخصية رجل الهيئة وممارسة سلطته وصلاحيته، مدخلاً نفسه تحت مسمى المحتسب، جالباً للهيئة الثبور وللناس السعير، فهذا غير قانوني ولا مشروع، يسمونهم (المتعاونين) وتجدهم في سيارات مدنية تتخذ أشكالاً شبابية أحياناً -للتمويه- ويحاولون الإيقاع بالمخالفين بأساليب استخباراتية، وبعضهم يأتي ماشياً بدون سيارة مكتفياً بمظهره الملتزم كبطاقة دخول إلى عالم الاحتساب الإلزامي، يستوقف الشباب ويسائلهم ويرفع صوته كأنه رجل هيئة، والهيئة حين وقوع المشكلات وحلول الحساب تتبرأ منه، هذه المشكلة حلُّها إلزام رجال الهيئة بزي موحَّدٍ مميز كرجال الشرطة، ولا يشترط أن يكون بنطالاً وقميصاً فيمكن أن يكون ثوباً له لون معيَّن أو مشلحاً له شكل مميز، ولا يمكن الحصول عليه إلا بتوفير إدارة الهيئة له، بذلك نضمن كون لابسه أحد رجالها، حينها لا يمكن أن يتحجج أحد بشكه في شخصية رجل الهيئة ولا أن تتهرب الهيئة من أخطاء بعض أفرادها برميها على المتعاونين. -4 من ناحية الرقابة: ما فائدة وضع نظام للهيئة إذا لم تكن الإدارة تراقب تطبيق هذا النظام وتعاقب على مخالفته؟ بعض أفراد الهيئة يرتكبون مخالفات صريحة لنظامها ولتعميمات وزارة الداخلية الصادرة لها، ويتضح أحياناً أن مصدر تلك التجاوزات هو اتباع فتوى الشيخ فلان، فمتى صارت الفتوى الفردية مصدراً قانونياً معتبراً لجهاز حكومي أعضاؤه يُوظَّفون على مراتب ديوان الخدمة المدنية؟ لا شكَّ أن الهيئة -ورغم كل جهود رجالها وبطولاتهم في استنقاذ الأعراض ونشر المعروف وإزالة المنكر- بحاجة إلى التطوير لتتناسب صورتها مع التطور المجتمعي المتسارع، خصوصاً مع انتشار الوعي القانوني الذي يوقع بعض رجالها في إحراجات، ويضع الهيئة في مرمى النقد الهدَّام، وما يحصل الآن من بعض رجال الهيئة من إغفال الدور التوعوي والتركيز فقط على تسليم كل مخالف إلى الشرطة، هو أمر يبتعد عن تطبيق جوهر الاحتساب؛ لأن المحتسب مشفق على المجتمع في المقام الأول.