قد لا نتفق في الحكم على ما يجري من أحداث في المنطقة، ومن الطبيعي أن تختلف قراءتنا لمتغيرات ما سُمي بثورات الربيع العربي، التي اندلعت في مطلع عام 2010م، ولكننا حتما نتفق على أن ما توهمنا أنه (الربيع) اتضح تماما أنه خريف حارق، اشتعلت نيرانه، ولم ينطفئ لهيبه. في تونس وليبيا ومصر واليمن، ولازالت الثورة قائمة في سوريا بين النظام ومقاتلين من كل العناصر الشعبية السورية والمجاهدين العرب! وبالفعل تغيرت الأنظمة في غالبية تلك الدول بثورات وانتفاضات شعبية، إلا أن تلك الشعوب مصدومة وثائرة حتى الآن، لأنها لم تلمس من النتائج ما ثارت من أجله، والتغيير الذي كانت تريده، ولا أخذت من الثورة التي قامت بها ما يحقق آمالها وطموحاتها، بل وجدت الشعوب الثائرة أن ثوراتها قد اختطفت منها، وقطف ثمارها غيرها ممن كان يتربص فرصة الاستيلاء على الحكم، ومَن كان يخطط بصبر وطول نفس للوصول إلى تحقيق أهدافه. كانت الشعوب العربية ملومة ببلادتها وخنوعها، وسكونها الضعيف، لأن الشعوب العربية في تكوينها السيكيولوجي – كما ذكر أ. خليل العناني في جريدة الأهرام القاهرية – كانت بمثابة الحاضنة لغضب مكبوت، وقهر مسكوت عنه، فالمجتمع، ليس تلك البنية التقليدية المكونة من أفراد وجماعات وفئات لا يربط بينها سوى الانتماء المكاني لبقعة جغرافية بعينها، وإنما المقصود بالمجتمع أساسا مفهوم الجماعة المتناغمة فكرا وعقلا ومنهجا، وهو هنا يتجاوز النظر للأفراد باعتبارهم مجرد كتل سكانية أو بشرية صماء. انتفضت الشعوب العربية ضد الأنظمة المستبدة، وهي أنظمة كان يُفترض أن تكون شعبية جماهيرية، لا يُورّث الأب حكمها للابن، ولا يتوارثه نظام معين أو قبيلة بعينها، ونحن نعلم أن بعض الأنظمة التي ثارت الشعوب عليها استمر حكم رئيسها أو زعيمها الأوحد ما يزيد عن الثلاثة قرون. خرجت تلك الشعوب عن صمتها، وثارت على ظلمها، طلبا للعدالة والمساواة الاجتماعية، وبغية استرداد ما ضاع عليها من حقوق، والقضاء على الفساد واستبداد الحكام وعناصرهم الفاسدة، لكن هذه الشعوب ظُلمت مرة ثانية، واغتصبت حقوقها في بلدانها، واختطفت ثوراتها، بعد أن قضت على الأنظمة المستبدة، لتجد نفسها أمام أنظمة جماعات تنظيمية متشددة، متناغمة فكرا ومنهجا، فغاب الأمن والأمان، وافتقدت الشعوب استقرارها، وزادت همومها بعيش كريم، وتفاقمت أزماتها الاقتصادية. وعمت الفوضى البلاد، فوضى عارمة ومنظمة. إلا أن الشعوب التي عرفت كيف ترفع صوتها، وكيف تتظاهر وتعلن رفضها لكل ما ليس في صالحها وصالح الوطن، لا تهدأ، كما أنها لن تتخلى عن ثوراتها ومطالبها المشروعة، بعد أن أدركت أن هناك من حرضها، واستغل حاجتها وحماسها للتغيير، فخطط لزعزعة استقرار بلدانها والمنطقة. كان من أبرز ما أفرزته الثورات العربية صعود التيارات الدينية، ولا نقول (الإسلامية) فمصطلح (الإسلامي) مصطلح له دلالاته ومعانيه السامية التي ترتبط بالإسلام كدين يدعو للعدل والتسامح والوسطية والتعايش السلمي مع الآخرين.استغلت التيارات الدينية، وبالأخص جماعات الإخوان المسلمين والسلفيين الثورات العربية، ووجدت فيها ما يخرجها للعلن، ويحقق حلمها في تحقيق منجزها السياسي لا الديني، من (الدعوة) إلى (السلطة)، والخروج من عباءة التنظيم الحركي السري، حيث وجدنا أن معظم العناصر التي أخذت أو استولت على كراسي الرئاسة والحكم في الدول التي ثارت فيها شعوبها، كانوا من المنفيين سياسيا أو من المحكوم عليهم في قضايا تنظيمية وقضايا أمن دولة وإرهاب ضمن جماعات دينية متطرفة. ونلاحظ أن هناك خطة «لأخونة» الأنظمة، وهو ما حدث في ليبيا وتونس ومصر، وهناك صراع قائم في سوريا، ثورة يقوم بها الشعب وتجاهد فيها عناصر سلفية إخوانية مختلفة، تنتظر انتهاء الأمر إليها، وفي الأردن ينتفض الإخوان المسلمون، لكن الشعب الذي غالبيته من القبائل والعشائر يتمسك بالدولة الهاشمية، ويدين بولائه لها. كما أثار إعلان رئيس حكومة حماس المقالة إسماعيل هنية في الخرطوم، جماعة حماس ممثلا للإخوان المسلمين في فلسطين، وتضامنها مع جماعة الإخوان في الشام ومصر، علامات استفهام كبيرة. ثم إن ما حدث من عدوان على غزة، ومن ثم الهدنة المفاجئة مع إسرائيل، وثورة شعب مصر من جديد على رئيس الإخوان بعد الإعلان الدستوري الذي رأى المصريون فيه أنه ليس في صالحهم ولا في صالح مصر، وإنما هو لصالح الجماعة، يثير أسئلة كثيرة، أبرزها لمصلحة من تتم أخونة الأنظمة في المنطقة؟ ومَن يقف وراء هذا (المخطط) ولا أقول المؤامرة حتى لا أُتهم بعقدة التآمر؟ والحديث في هذا يطول.