مع انتهاء كل موسم حج يحضر على ألسن الحجاج والمعنيين بخدمتهم قول الحق (اليوم أكملتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام دينا) فأعود إلى تاريخ التشريع باعتباره مرجعاً لتحديد آخر ما نزل، وأتوقف عند أقوال المفسرين المشتغلين على اللفظ، فأجدني لا أسلّم لتفسيراتهم أن النص مكتمل المعنى منذ تاريخ نزوله، لأن صلاحية النص الديني لكل زمان ومكان تُحتّم قابليته للقراءة المتجددة في ضوء معطيات العصر، وآليات تفكيك الخطاب، فالراسخون في علم اللغة أهل لمعرفة المعنى والتأويل، ويحضرني وصف النبي -عليه الصلاة والسلام- عبدالله بن عباس بترجمان القرآن، والرؤية القاصرة للنص الديني تُضعفه، وتحجّم مساحة تطبيقه، وتقتل فكرة قابليته للتعددية، واستيعابه الجميع، مع التسليم بأن الأصول الثابتة أو الثوابت الأصيلة اكتملت لفظاً باعتبارها محكمات هن أم الكتاب، مع قابلية الانفتاح على الحياة، كونها مشروع مستجدات وتحولات يمكن تفريعها على أصول محكمة، ومن هنا تولّد في ذهني مصطلح «أرخنة» النص الديني، فإذا ما نظرنا للنص باعتباره مكتملاً في لفظه ودلالاته وتطبيقاته بحكم زمنه، فنحن نتجنى على كتاب ربنا الذي استوعب كل شيء، استناداً على قوله تعالى (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) إلا أن واقع الحياة المكية والمدنية حتى حجة الوداع محدود في زمانه ومكانه، وما شهده المدّ الإسلامي زمن الخلافة يؤكد مفهوم انفتاح الحياة، وتجدد قضاياها وإشكالاتها، وتفاعل المسلمين مع بيئات ومجتمعات جديدة، منهم الروم والفرس، وتعاطيهم مع ثقافات وافدة وعادات وتقاليد، ونجدُ في التاريخ المرحلي للأمة الإسلامية مساحات أرحب وأسخى، هي تلك التي قدّم العلماء فيها قراءات متجددة، بدءاً بأبي بكر الصديق الذي أوقف العمل بسهم المؤلفة قلوبهم، وعمر الفاروق الذي عطّل حد السرقة عام الرمادة، وكل هذا اشتغال على النص بالقراءة المناسبة للعصر، دون تبرّم أو احتجاج من تلاميذ المدرسة الأولى للإسلام، ولم تتعطل حضارة الإسلام سوى في أزمنة غلبتْ عليها الكهنوتية، وتم تعذيب الخلق والتحجير عليهم بالفهم القاصر للنص، والعجز عن التعاطي معه نصاً غير منغلق ولا مكتمل الدلالة، جاء في الأثر (لا يخْلَق من كثرة الرد) ولذا لم يعب أحد من مفكري الإسلام على الاستنباطات الممكنة التي ساهمت في خدمة المسلمين، وأوصلتهم إلى الآخر، وخلقتْ روح التسامح بين النص الرباني وبين الفهم الإنساني وواقع الحياة، فالمعنى لاكتمال معنى نصوص الدين (رمزي) أو مجازي مع التسليم بختم الرسالة وسلامتها من النقص، إلا أن المُصرّين على بقاء معنى النص الديني على ما توارثوه عن أسلافهم، يقعون في (الأرخنة) وحصر عمل النص في زمانه ومكانه كما عند السيميائيين، والأوفق أن نكون مع الفهم المحقق مرونة الاجتهاد، وانفتاح الدلالات أو المدلولات على متغيرات العصر واستيعابها، ولسنا مع رهن النص لفهم السلطة المُمرّرة له والمتكئة عليه.