في حياتي لم أقابل أي رقيب عدا رقيب الصحافة، هذا الرّقيب الحبيب الذي هو دائماً يظهر أدرى مني بما أكتب، يأخذ بيدي وبقلمي كثيراً، وآخذ برأيه أكثر فهو يقنعني أن ما يقتلعه من أسنان مقالي كل أسبوع إنما هو لصالحي حتى تكون طروحاتي أكثر موضوعية. هذا الرّقيب أتخيله في مرّات كثيرة كرجل مسن طيّب الملامح خارج للتو من صلاة فجر، وفي مرّات أكثر تختلف ملامحه علي وأتخيل نظرته الحادّة وابتسامته المنتصرة وهو يعدّل نظارته الطبية ويضع بقلمه الأحمر خطاً تحت جملة هربت عن غفلة متعمّدة مني، أصبح ذلك الرقيب له ألف شكل وألف لون وبكل الملامح الطيّبة والشريرة وهكذا كبرت وكبرت تخيلاتي معي حتى أصبح الرّقيب جزءاً من ذاكرتي التي لا أعرفها. الغريب أن هذا الرّقيب الذي صرت أحبّه وأخافه لا أجده في مكان آخر إلاّ على الورق، صار يقتات من حروفي ويكبر خوفي كلما التهم جملة صغيرة من جملي، صرت من شدّة ولعي به أتمنى أن أقابل ذلك الرقيب المهيب مرّة واحدة ولو بالصدفة في أي سوق تجاري لنشرب فنجان قهوة معاً وأخبره عن قرب عن صاحب ذلك المحل الذي يرفع الأسعار بلا مبرر إلاّ الجشع، وسأخبره عن غضب البسطاء من النّاس الذين يصرخون ليل نهار أن كل ريال قادم إلى جيوبهم بعد فيض من عرق يذهب غصباً عنهم إلى جيب تاجر جشع. وأتمنى منه لمرّات كثيرة أن يقوم بنفسه حفظه الله بزيارة إلى محلات البضائع المضروبة التي تملأ الأسواق وتبيعنا أوهام الصين ومخلّفات أسواقها ليعرف أن ريالنا العزيز أصبح ثمنه بخساً جداً! وأتمنى منه أن يراقب بحكمته التي أثبتها أمامي أكثر من مرّة وأن يذهب إلى محلات قطع الغيار ووكالات السيارات ليرى كيف أن القطع المقلّدة تباع بكل غش واضح على أنها أصليّة ومن محلات كبرى. وسأخبره عما يقوله النّاس عن المطاعم ولحومها التي يقصّون عنها قصصا تجعل الولدان شيبا، وسأقول له عن ذلك (الأجنبي) الذي قبض عليه وهو يموّن المطاعم بلحوم الميتة من الغنم ونُشر خبره وأفرج عنه ومازال المطعم يتمتّع بلحمنا الطّري بلحومه المرّة! وسأقول له أشياء أكثر صدقاً حينما أخبره أن أصدقائي الصحفيين والكتّاب يعتبون عليه كثيراً حينما يجدونه حاضراً في كل مناسباتهم التي يحيونها كحبر على ورق ولا يلبّي دعواتهم للحضور في أرض الميدان، فهم من شدّة ما يعتبون عليه صاروا (يظنّون كل الظن أن لا تلاقيا)، حتى أن بعضهم يقول إن الرّقيب لا يقرأ الصحف وإلاّ لأجرى تعديلاً ولو بسيطاً على جملة من جمل الواقع! أين هذا الرّقيب ومتى نجده ماثلاً أمامنا كواقع بعيداً عن الورق يخدم الجميع بحرص وبمحبّة كي يثقوا بطعامهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم وسياراتهم وطرقهم ومشروعاتهم ومدارسهم وأسواقهم وحدائقهم!