بكل الوضوح والألم إن قضايانا العربية غائبة ومهملة في دهاليز الأممالمتحدة. وحتى حين نعرضها أمام ممثلي تلك الأمم فإننا نعرف أن حلولها قد قفزت من أيدينا إلى عالم آخر لا نعرف إن كانت له قدرة على الحل أو أن قدرته ستتجلى في التعقيد وإطالة أمد الأزمة إلى ما شاء الله. انظروا إلى الدورة الأخيرة للأمم المتحدة، وتمعّنوا في خطابات الزعماء التي ألقيت فوق المنصة الخضراء العريقة. الدول العربية مهامها العسيرة إما داخلية، أي مع شعوبها، التي تحاول أن تتنفس عبر ما أطلق عليه “الربيع العربي”، أو مع جيرانها لتصدير أزماتها السياسية والاقتصادية المتلاحقة، أو عبر إحياء أزمات اجتماعية لا تنطفئ إلا لتندلع مرة أخرى. الخطابات العربية مرّت على المنصة وكأنها تعرض أحوالها، أو تبرهن على براءتها من ماضي حكوماتها السابقة. لكن حكومات العالم المنضوية تحت لواء الأممالمتحدة لا تصدق كثيراً ما يُلقى على المنصات إذا لم تصاحب تلك الخطب قرارات وخطط واستراتيجيات عمل يمكن تنفيذها وقياس مدى نجاحاتها. إرث عدد من الحكومات العربية شاق بلاشك، فأي خطة تلك التي يمكن أن تحرك جبل الآلام الذي صنعته الحكومات التليدة لتونس ومصر وليبيا، دون أن نذكّر بكوابيس العراق التي فتحت باباً لجهنم في منطقتنا المضطربة. لا ينتظر العالم صكوك براءة من الأنظمة السابقة التي وُصمت بدكتاتوريتها، لكنه ينتظر صورة جديدة للديمقراطية القابلة للحياة في الشرق الأوسط، ينتظر لغة أخرى أكثر واقعية تقل فيها الأحلام والعبارات الفنتازية التي لا تُرضي سوى غرور كاتبها! كان العالم ينتظر من الدول التي مر فيها الربيع العربي وعوداً بالعمل على تثبيت شرعة مواثيق الأممالمتحدة القاضية بتعزيز حقوق الإنسان وإرساء دعائم حقيقية للديمقراطية وبناء دول المجتمعات المدنية. قد يقول أحدنا إن الخطب التي ألقيت تضمنت وعوداً بالإصلاح والبناء، لكنني أردّ: بماذا ستختلف عما سبقها إذا لم يصاحبها عمل حقيقي يمكن قياسه وتقييمه في الدورات المقبلة؟! الخطابان اللذان حصدا أغلب التعليقات وتصدرا أغلب الصحف النافذة هما خطابا إيران وإسرائيل. قضايا هاتين الدولتين واضحة. إسرائيل تمتلك الترسانة النووية الأضخم في المنطقة وهي لن تقبل أن ينازعها أحد، وهذه هي قضيتها الساخنة منذ سنوات، ولن تخمد. على الجانب الآخر، فإن إيران تسابق الزمن لنصب مفاعلها النووي وتحشد كل قواها وصداقاتها العالمية لكي تصبح القوة الأكثر نفوذاً وثقلاً في المنطقة، ولا تتردد في الإعلان عن أنها ستدافع بكل قوة عن مصالحها الحيوية ومستقبل بلادها. على خط هذا الصراع تدخل سوريا بمجازرها اليومية واحتقانها السياسي والإنساني، وتنهار كل وساطات الأممالمتحدة التي حملها ممثلان عريقان دون أن يبلغا مشارف أي حل. لم تخلُ الكلمات العربية من إدانة الوضع في سوريا، وشجب الجرائم الوحشية، ومطالبة النظام بالرحيل، لكن الكلمات لا تصل إلى أحد، فهي عبارات مطلقة لا تعكس إرادة عربية متماسكة تجاه محنة إنسانية ضخمة، لن يحصد نتائجها سوى محيطها العربي. ما هو نصيب فلسطين في هذه الدورة؟ بما أن ورودها في خطبنا أمام الأممالمتحدة طيلة أكثر من ستة عقود لم يعد يثمر شيئاً، فإنني أحيل القارئ إلى خطاب فلسطين، فقد طالب وفدها هذا العام بأن يكون “عضواً مراقباً” بعد أن طالب، العام الماضي، بعضوية كاملة في هذه المؤسسة الدولية لكنها لم تتحقق! (كُلَّما جاءني الأمسُ، قلت له:/ ليس موعدُنا اليومَ، فلتبتعدْ/ وتعالَ غداً! محمود درويش).