مكونات شارع تجاري متوسط في مدننا: بقالة، مخبز وفوال، مغسلة ملابس، سباك وكهربائي، بوفيه، مطعم، موبيليا، محطة بنزين، حلاق، صيدلية، إلكترونيات وتركيب دشوش، خياط، محل بيع جوالات، مشغل نسائي.. إلخ. قبل أن نسأل أين يمكن أن يعمل الشاب السعودي في مثل هذه الأنشطة التجارية الصغيرة والمتوسطة، المليونية في عددها في طول البلاد وعرضها؟ هناك مجموعة خدع ومغالطات تغلغلت في الخطاب العام والإعلامي على صورة تنميطات مضللة في رؤية قضية الأجنبي. أولها، «خلط عباس على دباس»، فتصبح قضية مليئة بالتفاصيل اللانهائية، مختزلة بمجموعة أراء معلبة تجمدت في مطبخ الصحافة منذ الثمانينيات، وعندما يريد بعضهم أن يميز، يبدأ خداعاً من نوع آخر.. الاستمتاع بدور الضحية، وصناعة عدو هلامي لايمكن تحديد تفاصيله، مع أنه لا يوجد عدو ولا ضحية هنا. يوجد واقع ونمط معيشي واقتصادي يؤثر على الجدوى الاقتصادي لأي مشروع، وكلفة العامل جزء رئيس من المعادلة الاقتصادية. وقبل أن تستعرض رؤيتك الإنثروبولوجية عن العادات والتقاليد، وهل الشاب السعودي يقبل أو لا يقبل؟ وتنظيرك عن كسلهم لابد أن يكون هناك تصور كافٍ عن الجدوى الاقتصادية لأي مشروع تجاري. أغلب رواتب هذه الفئة ليست مغرية للشاب السعودي، فهي متدنية جداً لا علاقة لها بالثقافة والعادات، ولا تنفع كخبرة تراكمية للشاب لأنها مجرد جهد بدني. أما الأعمال التي تعتمد على جهد العامل وشطارته وقد يحقق فيها دخلاً شهرياً مرتفعاً تصل إلى ما فوق خمسة آلاف ريال، وهو مبلغ يمثل للعامل الأجنبي دخلاً سنوياً في بلده مما يجعله يعمل بأقصى طاقته، وساعات عمل تفوق أحيانا 12 ساعة، فهناك جدوى اقتصادية بالنسبة له بعكس المواطن. سنترك تفاصيل القضية في الشركات والمؤسسات الأكبر لمقالة أخرى. الخدعة الأخرى، محاولة تصوير هذه الأنشطة المنتشرة في شوارعنا على أنها للأجانب وسيطرتهم على السوق، والواقع أن أي مشروع صغير أو كبير، خلفه مواطن سعودي يريد أن يحسن دخله إذا كان موظفاً، أو أنه المصدر الوحيد لدخله. ينصح الشاب بعدم الارتباط بوظيفة وانتظارها وعليك بالانخراط في التجارة. فكرة جيدة: يبدأ هذا الشاب «يطقطق» كما يقال في التجارة، فأغلب هذه المشروعات التجارية تحتاج إلى عمالة، فيبدأ في الاستقدام حسب احتياجاته، ولو افترضنا أنه سيبدأ في محل تجاري صغير يعمل هو فيه فقط، فإن المشروع سيظل صغيراً، وإذا أراد أن يتوسع ويعمل بطاقة أوسع فلابد أن يستعين بمعاونين من العمالة. في الماضي كان الآباء في الأسواق يأتون بأولادهم الصغار والكبار ليساعدوهم في المحل. لكن لأن الظروف الاقتصادية وطبيعة المدن تغيرت استبدل هولاء الأباء بالأبناء العمالة الأجنبية، فأولويات وثقافة الأسرة اختلفت، فأصبح التعليم له أهمية قصوى، وعندما يتخرج الابن فقد لا تستوعب المشروعات الصغيرة توظيف أبنائهم، فيبحثون عن عمل آخر لعدم الجدوى الاقتصادية، فهل سيقال إن هذا الأب يوظف الأجنبي على حساب أولاده!؟ يفتح الشاب العاطل الذي استمع لهذه النصائح نشاطاً تجارياً صغيراً. كمخبز أو مغسلة ملابس أو حلاق ويستقدم العمالة المناسبة له، يبدأ بالنجاح ويتطور، ويفتح له فروعاً أخرى عديدة، يصبح هاموراً صغيراً في السوق، وتحت كفالته عشرات العمالة الأجنبية التي تعتمد عليها هذه الأنشطة، فيكون لديه دخل شهري يفوق الموظف الكبير، يصبح قصة نجاح تروى للآخرين. تعجب هذه القصة صحفياً فيطرحها عن هذا الشاب السعودي الناجح، وينسى أو يتجاهل أن هذا النجاح التجاري اعتمد على العمالة الأجنبية.. التي في الصفحة الأخرى من الجريدة توجد مقالات في هجائها!؟ تأتي مسألة التستر، والكلام الإنشائي حولها، دون إدارك للواقع وهي قائمة على مجموعة من التهويلات الفرضية. لن يكون هذا الصحفي أو ذاك المسؤول أحرص من المواطن السعودي الذي يعمل تحت كفالته هذا العامل أو ذاك، والمشروع باسمه على المال منه، حتى يعلمه أنه مخدوع مالياً، فالواقع أن بعض الأنشطة لها طبيعة خاصة تجعل الخيار التعاقدي والعملي مختلفاً ولا يعتمد على مجرد راتب شهري وإنما على جهد العامل. يطرح بعض الاقتصاديين الأرقام دون تحليل، والواقع أن تأمل الكثير منها ومعرفة حقيقتها يجعلان الرؤية للمعلومة مختلفة. نعرف جميعاً الضرر على الاقتصاد من خروج الأموال إلى الخارج، فتعرض الصحافة تحويلات العمالة الأجنبية. مثلا في العام الماضي قدرت ب105 مليارات ريال، فإذا قدر عدد الأجانب بحوالي ثمانية ملايين، فالواقع أن معدل التحويل السنوي لكل واحد حوالي 13 ألف ريال، أي ما يقارب الألف ريال شهرياً فقط، وهو رقم مقارب لدخل العاملة المنزلية الشهري! ولأخذ تصور عن الأرقام ينفق السعوديون مثلاً في السياحة الخارجية حوالي ضعف هذا الرقم، ويقدر بخمسين مليار دولار أي حوالي 187 مليار ريال سنوياً. وإذا كانت تلك الأموال المحسوبة على العمالة تقوم عليها عجلة الإنتاج في السعودية، فإن الإنفاق السياحي مجرد ترفيه. لا تعالج المسائل الاقتصادية بالعموميات فكل نشاط له تفصيل وطبيعة خاصة ولا معنى للأرقام دون تصورها واقعياً. رؤية مشكلاتنا الاقتصادية وقعت تحت التنميط الأول للظواهر في صحفنا، ولا تخرج عنه منذ عقود فتسيطرت هذه الرؤية على طريقة تفكيرنا وتصريحات المسؤول. الشفافية أن نبدأ بتفكيك كل نشاط والتفاصيل حوله؛ لتبدو الأرقام مفيدة قبل أن نتحدث عن البطالة وغيرها. عقود طويلة من التراكم الإنشائي دون أن نخرج بوصف حقيقي لكل عمل. حتى الإعلام الجديد وقع في فخ التنميط الصحفي لرؤية الأجنبي وسلطته كما في الفيلم الأخير «كروة» بالرغم من الجهد وجودة العمل اللذين يشكران عليه. أحيانا تغري بعضهم العبارات المثيرة بالرغم من ضررها التضليلي في رؤية مثل هذه القضايا المركبة، فيكتب الصحفي القدير جمال خاشقجي عنواناً لمقالته الأسبوع الماضي في جريدة الحياة 29/9/2012م ب «أخرجوا العمالة الأجنبية من جزيرة العرب» بالرغم من أنه لا يقصد هذه العبارة بظاهرها، حيث كانت معالجته محاولة لتعقل المسألة. وقبل يومين يكتب صحفي قدير آخر، راشد فهد الراشد في جريدة الرياض 3/ 9/ 2012م فيقول، «العمالة تحوّلت في وطننا إلى عبء مخيف وقاتل، وصارت تستنزف المقدرات والمكتسبات ليس بما تجنيه من أموال بالطرق المشروعة عبر إنتاجيتها، وبغيرها من الوسائل غير المشروعة وهي الغالب» وإذا كان يمكن قبول هذا الكلام بصورة عامة، فإن مقولة جنيهم للأموال بطريقة غير مشروعة هو الغالب لا تليق بصحفي مثله. في حوار لجريدة الاقتصادية 26/9/2012م مع مدير إدارة الأبحاث في صندوق النقد الدولي يشير إلى أن سوق العمل في مجلس التعاون الخليجي «ذو طابع فريد إلى حد ما « مما يجعل الأعداد الكبيرة في حقيقتها ليست منافسة للمواطن. كانت ردود الأفعال في موقع الجريدة في غالبيتها تهاجمه وبقوة. إنهم ضحايا التنميط الإعلامي الذي لم يقدم حتى الآن خطوة لفهم تفاصيل مشكلة الاقتصاد وسوق العمل وحقيقته في المملكة العربية السعودية.