لعبت القومية العربية دوراً بارزاً في إبراز الهوية العربية في منتصف الخمسينيات وإلى بداية السبعينيات من القرن الماضي. ولعله كان من أهم تلك الأدوار قدرتها على تحريك الشارع العربي داخلياً ودولياً نصرةً للقضايا التي تمس الهوية العربية. إلا أن الشارع العربي في دول الربيع العربي ومع انبثاق ثوراته، لم يلتفت كثيراً إلى القومية العربية ولا حتى إلى شعاراتها، بل تركها جانباً ليطلق شعارات أقرب ما تكون إلى شعارات الديمقراطية التي أصبحت بعد انتهاء بعض ثورات الربيع آلية لانتقال السلطة بشكل سلمي. فماذا حصل للقومية العربية وما هو مستقبلها في ظل أجواء الربيع العربي الديمقراطي؟ فالقومية العربية في أبسط صورها تعني أن الدول العربية تشترك في عدد كبير من العناصر المتجانسة بل والمتماثلة أيضاً مثل: الدين واللغة والعادات والتقاليد.. إلخ التي لابد أن تدفع الدول العربية يوماً ما لكي تكون لها آمالً مشتركة، حيث ستكون تلك الآمال سبباً أساساً في ظهور الدول العربية أو الكيان العربي الموحد وبشكل اقتصادي واجتماعي وأمني وسياسي قوي على مسرح الأحداث السياسية الدولية. وكان لمصر الدور الأبرز في تأسيس فكرة القومية العربية من خلال رئيسها الراحل جمال عبدالناصر، الذي أسس واعتنق ونادى بل وساعد في نشرها لتنتشر في جميع أرجاء الوطن العربي في فترة كان يحتضن الاستعمار معظم أرجائه من الخليج إلى المحيط. وليس بعيداً عن مصر، فالقذافي نفسه لطالما تغنى بالقومية العربية الاشتراكية وجعلها جزءاً أساساً في خطاباته واجتماعاته وسياسته، بل ورأى أن الرئيس عبدالناصر بمثابة الأب الروحي وخير من يقتدي به لتحقيق القومية العربية. وفي شمال إفريقيا العربي، فإن من ساعد ثوار الجزائر هو الرئيس عبدالناصر فوجد الثوار أنفسهم مفعمين بشعارات القومية العربية. وسوريا والعراق ليستا ببعيدتين عن القومية العربية، بل إن أحزابهما السياسية التي سيطرت على مقاليد الحكم بعد انتهاء الاستعمار جعلت من القومية العربية برنامجها السياسي والاجتماعي وإن اختلفت في التطبيق. وفي اليمن وبالرغم من الانقلابات العسكرية المتتالية منذ الإطاحة بنظام الإمام يحيى عام 1962م، إلا أن الشارع ومفكري اليمن وخاصة الجنوبي منه، قد استجاب بل ورحب بأهداف القومية العربية. ولهذا، نجد أن القومية العربية في تلك الفترة لاقت قبولاً عاماً من قِبل معظم الشارع العربي. إن وهج القومية العربية في ذلك الوقت له ما يبرره، حيث إن التخلص من الاستعمار وما سببه من تشويه للهوية العربية يعدّ السبب الأبرز لعلو نجمها. إلا أن الهوية للدول العربية قد فسرت بشكل آخر غير الذي رمت إليه القومية العربية من قِبل بعض تيارات الشارع العربي. فالقومية العربية لم تكن الفكرة الرئيسة لإبراز الهوية للدول العربية، بل سبقتها أفكار أخرى تبحث عن الهوية. والجدير بالذكر هنا أن حركة الإخوان المسلمين في مصر هي من طرحت فكرة الإسلام التي سبقت فكرة القومية العربية. فالأخوان نظروا للقومية العربية من معيار آخر غير الذي نظر إليه عبدالناصر. بالنسبة لمؤسسي الحركة، فإن الهوية العربية يجب أن تكون جزءاً في إطار أرحب وأوسع ألا وهو الإطار الإسلامي، فالهوية العربية يجب أن تحدد وفق إطار الأمة الإسلامية وليس العكس صحيح. ولهذا، انقسم الشارع العربي حول الهوية. استمر الانقسام سنوات طويلة ولم يحسمه إلا ظهور الربيع العربي في بعض الدول العربية. حيث إن الشارع العربي لدول الربيع لم يطرح شعارات القومية ولا حتى شعارات إسلامية. ولكن الحقيقة التي أظهرها الربيع العربي أن التيار الإسلامي في مصر وتونس والتيار الليبرالي في ليبيا هما من وصلا إلي سدة الحكم، أما اليمن وسوريا فمازال الحديث مبكراً عن التيار الذي سيصل للحكم. اختلفت التيارات، وبقيت الديمقراطية هي من أوصلتها للحكم. والديمقراطية هي أيضاً من ستبعث بأهداف القومية العربية في ظل الربيع العربي، ولكن كيف؟ أخفقت القومية العربية في الفترات السابقة، لأنها لم تجد لها أنظمة سياسية ديمقراطية تدعم أهدافها النبيلة، ولأنها تمت شخصنتها. فمثلاً عبدالناصر ارتبطت القومية العربية باسمه، ولكن لم يكن نظامه السياسي ديمقراطياً بالرغم من الكاريزما القيادية التي تمتع بها. أما الآن وفي ظل وجود حكومات ديمقراطية منتخبة، فإن فرصة ظهور القومية العربية تلوح في الأفق، حيث ستجد حكومات الربيع العربي نفسها عاجلاً أو آجلاً مطالبة من قِبل شعوبها بأن تكون دولاً قوية، وهذا يتطلب فكرة التكتل العربي الذي يعدّ هدفاً أساساً من أهداف القومية العربية، ولا يتعارض مع أنصار أن تكون هوية الدول العربية: عربية أو إسلامية.