على الرغم من أنه كان من غير المتوقع أبداً أن تتحول صفعة البوعزيزي إلى بركان غضب، اجتث في طريقه أنظمة كانت إلى أشهر معدودة تعد، وبحسب تقارير غربية مستقرة إلى حد بعيد، بل ويضرب بها المثل فيما يُسمى بنسب النمو المرتفعة، تلك التي صنعت مجموعات أوليغارشية، مستبدة احتكرت السلطة والثروة، مما أدى بدوره إلى اتساع الفجوة بين القلة المالكة والكثرة، التي لا تملك وفي خضم عدم وجود أي منافذ للترقي الاقتصادي والاجتماعي والإنساني، بسبب الاستبداد والفساد أدى ذلك بدوره إلى تزايد الضغوط على الطبقات المتوسطة ودون المتوسطة، مما عجل كثيراً بقيام ثورات كان من المحتم أن تقوم ورغم الأجواء التفاؤلية التي سادت بدايات الربيع العربي، ومازالت، حيث كانت الشعارات المرفوعة وجملة المطالب مطالب شعبية وطنية عابرة للطوائف والعصبيات والجهويات، مطالب تتحدث عن الحرية والكرامة الإنسانية والعدل والمساواة أمام القانون والعدالة في توزيع الثروة ومحاربة الفساد، إلا أنه بعد سقوط الأنظمة، خصوصاً في تونس ومصر وبدايات الثورة الليبية، التي كانت أول من واجه مشكلات العصبيات العربية الأولى، بينما نرى أن من أهم معوقات استمرارية الثورات إلى غاياتها القصوى كانت العصبيات الأولى: الطائفة، القبيلة، الجهة، العرق... إلخ. وبنظرة فاحصة للتاريخ العربي، خصوصاً بعد العهد النبوي سنجد أن العصبيات القبائلية، وبالتحديد الصراع بين البداوة والمجتمع المكي، ممثلاً بقريش كان العامل الأهم في تشكل فكر الخوارج، وما تلا ذلك من صراعات دينية (أشبه ما تكون بسياسية حالياً) إذ كان الدين هو مضمار التحرك لا السياسة، فكانت كثير من الفرق العقائدية المتشكلة تعبر عن عصبيات خفية، أدى مع استمرارها إلى تجذر طائفيتها وعصبيتها، ومع مرور تلك القرون، وعلى الرغم من أن العوامل الثقافية الحقيقية المؤثرة كانت على الدوام تشكل العصبيات المتصارعة على مصادر ثروة نادرة بحكم الواقع الإيكولوجي العربي الشحيح الموارد الزراعية في أغلبه، إذ تشكل الصحراء ما مجموعه 80% من مساحة الوطن العربي، هذا الواقع الإيكولوجي فرض أنماطاً ثقافية منغلقة ذاتياً، محافظة في سلوكياتها تعتمد على العصبية والعقيدة في حيز حراكها، وشهد التاريخ العربي صراعات ما بين مجموعات طائفية بتشكلاتها العصبوية وصراعات ما بين سكان الواحات الصحراوية والقبائل الرعوية، أو بين البحر والبر، أو ما بين الريف وشبه المدينة، هذا التاريخ الطويل ونمطية تشكل العصبويات العربية المختلفة، شكل ومازال العائق الأكبر أمام أي تحول نحو التحديث الشامل، ورغم قدرة بعض المجتمعات العربية في فترات ما للتفاعل مع بعض شكليات التحديث، إلا أن عصبوياتها الأولى مازالت تشكل العائق الأكبر أمام بناء أوطان ودول حديثة، ولعل ما شهدناه وما سنشهده من توترات ما بين مختلف مكونات المجتمعات العربية في سياق التحولات المترتبة على الربيع العربي شاهد على ذلك، إلا أن هناك بعضاً من الأفكار التي يمكن أن تمكن من تخفيف عبء وتكلفة الانتقال، ومنها تعميق مفاهيم التحضر، ذلك أن تجذر مفهوم الارتباط بالوطن واستيعاب فكرته، فالأوطان في غاياتها القصوى هي أفكار حالمة عما نريد أن نكون، وعما كنا وسنصير إليه مفهوماً متجذراً، هذا التجذر سيخفف من عبء وقيود التحيزات العصائبية، وكذلك وهو الأهم وجود نظام اقتصادي منتج، ونركز على كلمة منتج، فالريع كان ومازال أحد أهم معوقات انتقال المجتمعات العربية نحو التحديث، فهو بالنهاية يوفر ما يعزز الروابط العشائرية العصبوية، فهو غنيمة ريع بالنهاية لا منتج، يتطلب جملة من التعاونات ما بين مختلف مكونات المجتمع العملية الإنتاجية ثم الرأسمالية السوقية ستخلق شبكات مصالح متداخلة ونفعية مبنية على مصلحة حقيقية، مثلها مثل تشكل القبائل والطوائف العصبوية عبر التاريخ، ولأجل مصلحة النفع الإنتاجي سيتوافر ما سيحتم نشوء قوانين ومساحات حرة للتحرك، وذلك كله في إطار خلق ثقافة «حياة» تجعل الإنسان قادراً أن يعيش حياة كريمة وسعيدة في وطنه، أو كما عبر أحد الأمريكيين الذين حصلوا على الجنسية، عندما زار يوماً بلاد أجداده «أحمدك يا الله أن جعلت وطني أمريكا»، فأمريكا في نظره وعلى ما فيها كانت أرحم له من بلاد أجداده، وهذا بالضبط ما نريد لوطن عربي: أن يستشعر كل إنسان أنه سعيد بالفعل كونه يعيش في هذا الوطن. ولذلك فإن أي إصلاح سياسي ثقافي لا يواكب إصلاحاً اقتصادياً يرفع من إنتاجية عناصر المجتمع، ويبدد تماماً مفهوم الدولة الراعية والمسؤولة المحتكرة للأموال والهبات، لن يؤدي إلا على مزيد من الانتكاسات، فالمواطن «المنتج» هو بالنهاية الغاية القصوى في أي عملية إنتاج اقتصادي، لا سيما والاقتصاد الحديث لم يعد يعتمد على إنتاج سلعة، بل قد يعتمد على إنتاج خدمة أو فكرة، والعامل الآخر الملازم لهذه الشرطية هو «خلق» ثقافة حياة، ورغم الطبيعة الأيكولوجية القاسية للصحاري العربية -في معظمها- إلا أنه يمكن التحايل على قسوة الطبيعة بالاعتماد على إعادة الانتشار السكاني نحو السواحل والبيئات الألطف مناخياً، وخلق قوانين تحترم وبشكل صارم الحريات الفردية، وتبعد أي وصاية عليها تحت أي حجة وذريعة، فالحرية وإن كانت شعاراً جميلاً، إلا أن تحمل تبعاتها ليس بالأمر السهل، فهي في أحيان كثيرة تتطلب الكثير من الصبر، حتى تنضج فكرة الحرية المسؤولة، لكن لا يمكن أن يكون هناك إبداع دون بيئة حرة وحامية للأفكار الجديدة، ومن ناحية أخرى يمكن للهجرات النوعية أن تحسن كثيراً من حراك أي مجتمع، خصوصاً أن كثيراً من المهاجرين العرب يرغبون بالعودة الفعلية لبلادهم، وكثيراً من هؤلاء يشكلون علامات فارقة في بلاد المهجر، وبإمكانهم أن يضيفوا الكثير لمجتمعاتهم، بالإضافة إلى الاهتمام الكبير بالتعليم الذي يكسب مهارة وعلماً وقدرة على التفكير والابتكار، والبعد عن أنماط التعليم الأيديولوجية، التي تغلق العقل وتستهلك طاقاته الخلاقة في حروب أيديولوجية لا معنى لها، وأخيراً وجود قدر كبير من المسؤولية لدى النخب من مثقفين وإعلاميين قادرين على خلق بيئات تشجع الإنتاج والابتكار، وتشجع ثقافة الحياة لأنها بالنهاية شرط أساس لتجاوز العصبويات والايديولوجيات، التي في غاياتها القصوى تستعبد الإنسان وتكبل انطلاقته.