ذكرت في مقالي السابق أن القدرة على التعايش في ظل وجود اختلاف مع الآخر ما هو في مجمله سوى نوع من الثقافة التي تختلف نسبتها من مجتمع إلى مجتمع آخر. مجتمعنا العربي لايزال يرزح تحت ثقافة وموروث لا يحترم الاختلاف وبالتالي لا يستطيع التعايش من خلاله، والمثل العربي الشهير (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) هو غير صحيح على أرض الواقع، كما عديد من الأمثلة والمقولات والحكم التي لانزال نتشدق بها في الوقت الذي نحن أبعد ما نكون عن تطبيقها. فاختلاف الرأي لدينا يفسد الود ويوجِد العداء الشخصي ما بين الناس، فكل اختلاف عربي هو في نهايته خلاف وصراع ونزاع حقيقي. الإشكالية التي نكاد نعرفها جميعاً أن أي تحوير لاختلاف رأي أو موقف أو وجهة نظر وتحويله إلى نوع من الصراع الشخصي الذي ينتهي بنهاية قطعية بين طرفين، ما هو في محصلته النهائية سوى بتر للحياة. بتر لتنوع الحياة الذي يوجِد الجمال ويصنع التطور والحضارة واتساع مجال الوعي وشمولية الرؤية. ما هو إلا هروب من رحابة الحياة في ظل تنوعها الثري، وتضييق فضاءاتها التي تتسع للجميع وتفيض بالمعرفة وتحويلها إلى سراديب ضيقة يتم من خلالها حشر الأفكار والأشياء والبشر بعد تصنيفها وإعادة تقييمها وتقييم الأشخاص القابعين خلفها بنظرة أحادية ضيقة. ثقافة الاختلاف مع الآخر أو عدمها، أعتقد وبرأيي المتواضع أنها تمثل حداً مفصلياً ما بين الانطلاق نحو اكتساب الأفضل من الآخر، من خلال احترام اختلاف هذا الآخر معنا والتعايش معه بحب في ظل وجود هذا الاختلاف أو نبذ وإقصاء هذا الآخر، وبالتالي إلغاء كل فرص الاكتساب منه والتقوقع داخل أنفسنا بعيداً عن كل تجاربه الحياتية والفكرية والمعرفية التي قد تكون سابقة لنا ومتقدمة علينا لمجرد أننا لا نتفق معه في بعض الرؤى والأفكار، وبرأيي أن ثقافة الاختلاف مع الآخر هي ثقافة اجتماعية مكتسبة في أغلبها يتوارثها المجتمع عبر أجياله، وأعتقد أن مجتمعنا العربي لم يملك هذه الثقافة في غالبية مراحله التاريخية، وإنما ارتكز على الثقافة الفردية الهرمية في تركيبتها الاجتماعية والصدامية في مضامينها، التي تميل إلى الصراع مع الآخر المختلف معها بدلاً من التعايش معه. النقطة الأخرى التي تؤكد أهمية هذه الثقافة هي أن وجودها يمثّل أرضية لابد من وجودها في أي مجتمع لتشكيل أنساق حياتية وفكرية مختلفة ومتباينة داخل هذا المجتمع، التي توجِد تنوّعاً واختلافاً ما بين مجموعاته، هذا الاختلاف ما هو في حقيقته إلا حالة من التنوع الذي لابد أن يحمل في رحمه نوعاً من الصراع والتجاذب الإيجابي (وحتى السلبي منه إن كان بنسبة مقبولة) فيما بين هذه المجموعات بالشكل الذي يولّد كثيراً من الرقي بهذا المجتمع في ظل تعدّد المساحات والخيارات التي يمنحها لأفراده، وتنافس هذه المجموعات فيما بينها وبين الأفراد داخلها. في حين أن افتقار أي مجتمع لهذه الثقافة يؤدي لوجود ما يسمى في علم الاجتماع ب(المجتمع المتشابه الأقرب للبساطة والبدائية)، الذي يكون متناغماً في ظاهره وفي قوانينه فقط بالشكل الذي لا يملك فيه (الفوضى الخلّاقة) التي يصنعها اختلاف المجموعات داخله، مرتكزاً على صراع الأفراد -في ظل هذا التشابه- فيما بينهم لإيجاد مكانة اجتماعية في هذا المجتمع بطريقة ممنهجة ومكررة لا تؤدي إلى أي تقدم لهذا المجتمع. أما إدارة الاختلاف مع الآخر سواء كان هذا الآخر فرداً أو مجتمعاً، فبرأيي هي ترتكز على نقطتين أساستين هما: – إدراك الفرق الشاسع ما بين حوار الأفكار وما بين حوار الأشخاص، فالأول يؤدي إلى الاختلاف والثاني يؤدي إلى الخلاف وشتان ما بينهما. فالحوار الحقيقي والمثري في اختلافه أكثر من اتفاقه هو ما تتجاذب وتتصارع به الأفكار فقط بمنأى عن الأشخاص القابعين خلف هذه الأفكار، وبعيداً كل البُعد عن رؤيتنا لهم وتصوراتنا عنهم وعن رؤيتنا لأنفسنا ومفاهيم الكرامة وإثبات الذات والهزيمة والانتصار. – الإيمان المسبق بأن الحقائق المطلقة في الحياة قليلة جداً ومتفق على أغلبها، وأن مجمل الحقائق التي نتصارع من أجل إثباتها هي حقائق نسبية في جوهرها، بالشكل الذي يجعلها تظهر بأكثر من شكل وأكثر من مظهر، وأن هذه الحقائق تختلف لنا باختلاف زوايا الرؤية، وبالتالي هي لا تتناقض كما نراها إلا بمقدار الزاوية التي انطلق منها كل واحد منّا.