الحضارة ليست كتلة جامدة من التطور المنوط بالقيادات الاجتماعية فحسب، وإنما هي شراكة حقيقية وتوحد الرؤى والأهداف والمسار الذي ينتهج لصناعة واقع فكري ملموس يجعل من المجتمع الذي نعيش فيه وجهة قاطبة يُشار إليها بالبنان في خدمتها لأفرادها والارتقاء بفكرهم وإسهاماتهم وتعزيز الشراكة بين القيادات والفاعلين الاجتماعيين، وكل ذلك لا يتأتى إلا إذا وُجد سلوك وفعل وثقافة وحياة المواطنة، إذن ما نريد التطرق إليه هو الآليات التي يمكن من خلالها صناعة تلك المنظومة الرباعية لفكر المواطنة، وهي «السلوك» الذي هو في صورته العامة «فعل» اجتماعي يعبر عن «ثقافة» فرد مستقاة من ثقافة مجتمع، وبالتالي يرسم لنا مسار «حياة» اجتماعية.. إن تلك الصناعة الحضارية التي نريد قائمة على منظومتين أساسيتين، كما هي قائمة على جبهتين أساسيتين هما قوام القيادة وقوام الأفراد «الفاعلين الاجتماعيين»، أما المنظومتان فنتطرق إليهما وهما: - المنظومة الإدارية التشريعية التنظيمية: وهي منوطة بالقيادة الاجتماعية في سنها، حيث إن المجتمع الذي ينوي صنع الحضارة لا يمكن أن يقوم بدون تشريع يكفل الحقوق ويلزم بالواجبات، شريطة أن تكون تلك الحقوق والواجبات متلائمة مع نسق الحياة الاجتماعية وإمكانات الأفراد الناظمين في المجتمع، ومراعية التفاوت القدراتي بينهم، ومؤكدة في الوقت ذاته على سيادة العدالة الاجتماعية والمساواة، وإقامة العدل بين الأفراد، وقد تكون تلك مثاليات أصبح الحديث عنها في واقعنا المعاصر ضرباً من الإنشاء، ولكن علينا النظر في الجزئيات البسيطة التي تشكل لنا المنتج النهائي، وهو العدل والمساواة، وهذه الجزيئات تتمثل في منظومات الاستقرار الاجتماعي والضبط الاجتماعي وشبكات الأمان وتوافر المستوى المعيشي المناسب ووجود مساحة مشتركة من الحوار البناء بين الجبهتين الأساسيتين، وعدم غلو وتسلط إحداهما على الأخرى.. وكل ذلك هو مجرد إجراءات إدارية ضبطية لا تملك جوهرها إلا من خلال المنظومة الأخرى في سياق المواطنة، وهي: - التربية على المواطنة وزرع ثقافتها وقيمها، وهذا هو المفقود الحقيقي في واقعنا العربي المعاصر، وفي الحقيقة أن الأمم المتحضرة هي التي أتقنت صناعة منهاج تربية المواطنة وأجادت في غرسه الغراس الحقيقي في نفوس أفرادها، وأكملت هي الدور المنوط بها لإكمال منظومات المواطنة، فتلاقحت قيادة اجتماعية متكاملة تفي بأدوارها المأمولة لخدمة مجتمعها وفاعلون اجتماعيون تحصنوا بتربية المواطنة التي هي في هيكلها «قيم ومعايير ومحددات» نبراسها الإخلاص والتفاني والسعي إلى الوحدة والقبول بالآخر والنظرة الثاقبة وتغليب المجتمع على الذات ونقض الجنوح والتحريض والإساءة والابتعاد عن الفساد بشتى أشكاله من أبسط البسيط إلى أكثره تعقيداً وضراوة، واعتبار المجتمع قيمة عليا تأتي بعد الدين في أهمية الحفاظ والالتزام والوفاء بمتطلباته وتحقيقها ونصرته، وبذل الذات في سبيل المجتمع، وقد يقول قائل إن ذلك ضربٌ من المستحيل من الصعب أن تنتهجه الذوات الاجتماعية بطريقة مباشرة، وهنا يكمن دور بلورة الفكر التربوي المتمثل في أساليب التربية الأسرية ومناهج التعليم المدرسية والجامعية والخطاب الديني الماثل والأنشطة التي تمارسها مختلف مؤسسات التطبيع الاجتماعي، حيث إن المسار الأول الذي لابد أن ترسمه وتحور من أجله خططها وبرامجها لابد أن يخدم زراعة ثقافة المواطنة في ذوات الأفراد المنتمين إلى تلك الأنشطة والبرامج والمتلقين لغراس تلك المناهج، وصولاً إلى مجتمع يعي أفراده المواطنة الحقة، مجتمع متجانس ومتعايش يعي قيمة العدالة والحقوق المتساوية والمشاركة العادلة..إذن فالمنظومتان السابقتان متكاملتان لا يمكن أن تتحقق المواطنة بإحداهما دون الأخرى، فبناء منظومة تشريعية للمواطنة لا يمكنه أن يؤسس لمواطنة سليمة في ظل مجتمع لا يعي ثقافة المواطنة ولا تترسخ فيه تربيتها، ويسوده التعصب والقبليات المنمطة، فالتشريع والتنظيم الإداري ليس كفيلاً بذاته بصناعة الرغبة في المساواة أو حتى العدالة الاجتماعية والسياسية، كما أنه لا يجبر على التعايش السلمي واحترام وتقدير الآخر.وهكذا الأمر مع الإطار القيمي، فالمجتمع المتجانس لا يمكنه أن يؤسس لمواطنة سياسية واجتماعية إلا بوجود تقنين ينظم ويحفظ هذه القيم في شكل نظام سياسي واجتماعي عام.. خلاصة القول إن تكامل المنظومتين السابقتين هو الكفيل بصناعة المجتمع الناظم على مسار الحضارة، حيث تكون المواطنة هي الممهد الحقيقي والبذر الأصلي للسير نحو تحقيق الطموح الاجتماعي العام، حيث تتوحد الجهود وتكون للمجتمع الكلمة العليا على المصالح، ويُنبذ الجانحون ويجنب الفساد وتتدارك الهفوات على طريق الصلاح والإصلاح.. بياني في القول إن تربية المواطنة هي عماد الحضارة الحقيقية، وأن تأخر حضارتنا العربية جاء بسبب فقد تلك التربية الضرورية كضرورة الماء للجسد، حيث غلبت النزعات الطائفية والانتماءات الحزبية والسلطويات الجابرة على أفق يصبّ فيه كل التوجهات في سبيل رفعة المجتمع وتطوره والارتقاء به.