اقترب مؤشر الحرارة من الأربعين، وتدفق الهواء الساخن من نوافذ السيارة المسرعة دون توقف، مهاجماً وجهي الذي غمره العرق، سألت مرافقنا عن الزمن المتبقي لكي نصل فأجابني بلهجته العسكرية الصارمة «خمس دقائق وننتقل للرحلة الحقيقية، فمازلنا في بداية الطريق، فقط اشرب أكبر قدر من المياه حتى لا تصاب بضربة شمس». توقفت السيارة وبدأنا رحلة السير على الأقدام، بيننا وبين حدود قطاع غزةالشرقية 1500 متر، سنقطع منها 600 متر فقط بين الأشجار القليلة التي مازالت صامدة في وجه جرفات الاحتلال، لنصل إلى أول نقطة يوجد فيها المقاومون الفلسطينيون، لنعيش معهم نهاراً من نهارات شهر يوليو الحارقة، التي لا تعني حرارتها شيئاً بالنسبة لهم إذا ما قورنت بالحرارة التي تخلفها سقوط قذيفة واحدة، التي قد تصل لمئات الدرجات المئوية. «يمكن أن تناديني أبوبلال، لكني لن أستطيع النظر لك طوال الوقت لأني كما ترى في مهمة ويجب أن انتبه لكل حركة في الجوار»، خرجت هذه الكلمات بعفوية لتذكرني بالتعليمات الكثيرة التي أمطرني بها مرافقي قبل أن نصل لمكان أبوبلال، «لا تسأل المقاتلين عن أسمائهم، ولا تطلب منهم كشف الوجوه، والأهم لا تلهيهم عن عملهم، واحذر وأنت تقوم بالتصوير». أجبت أبوبلال وأنا أحاول زرع الابتسامة على وجهي «لا تقلق، لكن قل لي في البداية كيف تطيق البقاء هنا طوال ساعات النهار في هذا الصيف الملتهب»، بدا على وجهه المغطى بأكمله بصبغة سوداء ملامح الاستغراب، وأجابني بعفوية مرة أخرى «ميدان القتال دائماً ملتهب حتى في أشد ليالي الشتاء برودة، وطالماً أن الشمس تشرق من أراضي فلسطين 48، فليس بيني وبينها مشكلة». أشعة الشمس تسللت فجأة من بين الأغصان لتداعب عيني أبوبلال، أغلقهما لثانية واحدة وهو يبتسم، وأبعد رأسه قليلاً ليسمح لها بموصلة الطريق باتجاه الأرض، وأمعن النظر إلى الأفق البعيد مستتراً بأغصان أخرى قريبة منه، هو يعرف أن النظر الدائم باتجاه الشرق له ثمنه، لكن لا مفر منه إذا كان العدو يأتي دائماً من هناك. لم يدم بقائي طويلاً مع أبوبلال المقاوم الفلسطيني الذي تخرج لتوّه في كلية الهندسة، ويصرّ على الرباط مع المقاومين في الخطوط الأولى المواجهة لخطة الهدنة الفاصلة بين قطاع غزة وأراضي فلسطين 48، فأمامي طريق قصير لكنه صعب وخطر لأصل إلى نقطة أكثر تقدماً، حيث يكمن فريق من المقاومين ليرصدوا حركات الدبابات والجرافات الإسرائيلية ليلاً ونهاراً، حرص مرافقي أن نسير بمحاذاة الأشجار وهو يسترق النظر للسماء بحثاً عن طائرات الاستطلاع التي لا تغادر المنطقة، ورصد أي تحرك على الأرض معناه صاروخ ينطلق منها، صغير في حجمه لكنه كبير في قوة تفجيره، وهو آخر ما كنا نريده. وصلنا للنقطة حيث كان خمسة من المقاومين ينتشرون على مسافات متقاربة، بعضهم يحمل صواريخ مضادة للدروع، والباقي مسلح برشاشات كلاشنكوف الروسية، وجميعهم يراقب إحدى الجرافات الإسرائيلية التي كانت في طريق عودتها إلى داخل أراضي 48، أشار لنا «أبوضياء» قائد المجموعة بأن ننبطح خلف تل صغير، وهمس في جهاز الاتصال الخاص به «من نصر 7 إلى نصر 1 الهدف تحرك ويخرج من المنطقة»، ليأتيه الرد من الجانب الآخر «وصلت الإشارة تابع المراقبة وأفدنا في حالة حدوث أي جديد». «الحدود هنا لا تعرف الهدوء ليلاً أو نهاراً في كل لحظة يمكن أن يتحرك الاحتلال، لذلك لا بديل عن الاستعداد الدائم واليقظة باستمرار لأن أي خطأ يعني حياة المجموعة بأكملها»، كلمات قالها «أبوضياء» وهو يصافحني، ثم دعاني للجلوس تحت إحدى الأشجار الكبيرة مضيفاً وهو يبتسم «من النادر أن نستقبل الضيوف هنا، لذلك أعذِرنا فعملنا ليس فيه أي مزاح». كان يحاول استراق النظر باستمرار ليتابع عمل رفقائه، ويتلقى باستمرار معلومات منهم عبر جهاز اتصاله الذي لم يتوقف لحظة عن الكلام.طلقات متقطعة كانت كافية بأن تُنهي جلستي مع أبوضياء، الذي طلب مني عدم التحرك بأي حال من مكاني، ليغيب ساعة كاملة كانت حُبلى بمزيد من إطلاق الرشاشات من المواقع الإسرائيلية التي تمتد عبر الحدود، لتعود المنطقة إلى سكونها السابق الذي يحمل كثيراً من الغموض والمفاجآت.«عفواً مضطرون لإرجاعك فوراً»، كانت الكلمات صارمة بما فيه الكفاية، ولم يكن لدي أي مساحة للنقاش، فالوضع بدأ يشتعل من جديد بعد أن رُصد عدد من الدبابات قرب الشريط الحدودي تستعد للتوغل، ويبدو أن الشمس التي اقتربت من الغروب ما كانت تسمح لحرارتها بالانكسار قبل أن تشعل نار مواجهة جديدة بدأتُ أسمع نذرها قبل أن أنهي رحلة العودة إلى حياة المدينة. مقاتل من حماس يحمل مضاداً للدبابات في نقطة متقدمة على الحدود