خلال مسيرة ممتدة لأكثر من 14 قرناً للإسلام التاريخي الطويل، كان من الطبيعي أن يدخل أتباع الإسلام ضمن منعطفات تاريخية عديدة، أثّرت بشكل كبير في فهمهم لدينهم، بل ونتج عن ذلك خروج عديد ٍ من المواقف، والقراءات، والمقاربات المختلفة، والمتضاربة في بعض الأحيان، حيال عديد ٍ من المسائل والقضايا. إن هذه المواقف، والقراءات، والمقاربات المختلفة، كانت متأثرة بشكل كبير بوقائع تاريخية مفصلية في تاريخ المسلمين، غير أنها لم تظل في إطارها التاريخي، بل تم تحديدها دينياً، أو بمعنى آخر، تم نقلها إلى إطارٍ ديني، وقد أفضى ذلك إلى انبثاق عديد ٍ من المذاهب والفرق الإسلامية، فعلى سبيل المثال: كانت بذور أفكار المذهب الخارجي قد نشأت عقب موقفٍ تاريخي سجّله بعض المقاتلين الذين كانوا في جيش الإمام علي بن أبي طالب في وقعة صفّين المشهورة، وقد ظلّت أفكارهم المحورية منها متأثّرة ومرهونة، بدرجة كبيرة، لهذا الموقف التاريخي، بل وتمّ تديين هذه الأفكار، واعتبارها أفكاراً دينية تعد من أهم مقتضيات المذهب الخارجي، بل إنها تعكس فهمهم لدين الإسلام عينه!. وهكذا فقد فعل التاريخ فعله في المسلمين، إذ إن عديدا من التصورات، والرؤى، والمواقف التي يرى المسلمون اليوم – باختلاف فرقهم وأحوالهم- أنّها دينية ليست في صميمها إلا مُنتج من مُنتجات التاريخ، أو بمعنى آخر هي ليست في الأصل قضايا دينية، وإنما هي قضايا تاريخية، أو هي قضايا ناتجة عن وقائع تاريخية طرأت بعد انقطاع الوحي، وبعد موت الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام. إن الإسلام اليوم يمتد على مساحة شاسعة من المعمورة، حيث يتمدد من أواسط آسيا وحتى أطراف إفريقيا والبلدان المُطلّة على المحيط الأطلنطي. علاوة على أنّ الأقليات المُسلمة توجد في كل بقاع الأرض. ورغم أن الإسلام كدينٍ سماوي له أركانه الثابتة، وأصوله التي يؤمن بها أتباعه، إلا أن الناظر إلى دين الإسلام، وخريطته المُتّسعة، سيجد أن أتباعه في أفكارهم، ورؤاهم يختلفون اختلافاً كبيراً عن بعضهم البعض، فإسلام طالبان يختلفُ عن إسلام الأتراك، والمسلمون الماليزيون يختلفون عن المسلمين في الصومال!. ومن هنا كانت عبارة «أن الإسلام متعدّد وليس واحداً» يمكن أن تكون صحيحة، إذا ما تمّ فهمها ضمن هذا الإطار، كما يمكن من هنا أن نلمح الأثر الذي يتركه المكان أو الجغرافيا في فهم الإسلام، وتطبيقاته المختلفة. من جانب آخر فإن الخلفية الثقافية لأي مجتمع قد تؤثر تأثيراً كبيراً في فهم مبادئ الإسلام، وتمثّلها، وتجسيدها أو تطبيقها على أرض الواقع، كما أنها قد تكون السبب الغائر وراء خياراتنا الفقهية، بل إن الخلفية الثقافية عينها قد تكون هي المُنتجة لعديد ٍ من الأفكار، فلكونها قد تظل مهيمنة وضاغطة بشكل كبير على المجتمع، بوصفها من عناصر ثقافته، فإنها لكي يتم تمريرها، تكتسب مشروعية دينية من خلال وضعها في منحى ديني صرف. ولعل مما يدلّل على هذه الجزئية الأخيرة القاعدة الفقهية المشهورة: لا تستفتِ مدنياً في الغناء، ولا عراقياً في النبيذ. وفي هذا الصدد أيضاً يُقال إن الإمام الشافعي، حين كان في مصر، كان لديه عديد ٌ من الأحكام والآراء الفقهية المغايرة عن أحكامه وآرائه السابقة في العراق!. ومن قبله كان الإمام مالك بن أنس قد خضع في أحكامه لما يُسمى بعمل أهل المدينة، حيث كان يعترف بعمل أهل المدينة على أنه مصدر من مصادر إطلاق أحكامه!. ماذا يعني هذان الشاهدان؟ وإلى ماذا يحيلان؟ إنهما يحيلان بلا شك إلى أن الخلفية الثقافية تؤثر بشكل كبير في إنتاج الأفكار، والرؤى، والتصورات. تُرى ما الذي يجعل اختيار غطاء الوجه للمرأة هو الخيار الفقهي الحاسم والأوحد في قضية الحجاب في فكرنا الديني؟ أليس مردّ ذلك هو العامل الثقافي قبل أن يكون الديني، باعتبار أن غطاء وجه المرأة كان عنصراً ثقافياً قبل أن يكون دينياً في محضن فكرنا الديني؟! وإذا ما تم الانتقال إلى قضية أخرى مثل زواج المسيار، ألم يكن استحضاره، وتمريره بإكسابه مشروعية دينية جاء نتيجة لضغط ثقافي أيضاً، بوصفه كان عنصراً من العناصر الثقافية للمحيط الثقافي والاجتماعي الذي نشأ فيه فكرنا الديني الحالي؟!. ماذا لو كان زواج المسيار قادماً من بلدٍ مثل مصر أو اليمن أو غيرهما، هل سيتم إكسابه مشروعية دينية لدينا؟!.