لأن العمل الجاد قد اعتاد أن يثمر ثماراً جيدة، والطريقَ اعتادت أن تنتهي بمواصلة المشي عليها، فإن الثورة المصرية قد آتت أُكُلها وأوصلت إلى غايتها، بتعيين الرئيس الأول بعد الثورة من خارج «فلول» النظام السابق، وهو الدكتور محمد مرسي. لن أخوض في أي مرئيات سياسية فهو أمرٌ لا أجيده ولا يهمني كثيراً، لكني سأعلق على بعض الملاحظات التي رصدتها في متابعتي غير الدقيقة لسير الانتخابات ونتائجها: أكثر ما استوقفني هو ذلك الشعور الهائل بالسعادة، الذي رأيته يطفح على وجوه المؤيدين للدكتور محمد مرسي، والاستبشار الذي تهدجت به أصواتهم، كنت كغيري أتابع لحظات الخطاب «الطويل جداً» الذي ألقاه رئيس اللجنة العليا للانتخابات، خطاب ملأته التفاصيل الدقيقة والإحصائيات غير المهمة، الأعصاب مشدودة والقلوب قد بلغت الحناجر والظنون تلعب لعبتها، السباق على مشارف النهاية والإرهاق بلغ بالمتسابقين كل مبلغ، كل فريقٍ ينتظر الكلمات التي يكون سماعها مسك الختام لجهود طويلة مضنية، حتى إذا تم إعلان فوز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة تصايح الصحفيون في القاعة وتقافزوا، خرجوا عن طورهم وخرقوا قواعد المهنية التي تقتضي الحياد في هذه المواقف، بتهليلهم وتكبيرهم وتصفيقهم وصياحهم واحتضان بعضهم بعضاً، حتى اضطر المسؤول لإسكاتهم بشكل حازم ولا أدري كيف استطاع إسكاتهم وتوبيخهم في هذه اللحظة التاريخية التي يعتبرها بعضهم أهم لحظة في حياته، ولعل أحدهم بعدها لا يضره أن تقبض روحه بعد أن عاشها. إنها لحظة الحرية، ولحظة تحقيق الهدف، إنها اللحظة التي عمل لها الشعب أياماً وشهوراً، وأنفق عليها الشعب دماءً وأموالاً وعرقاً ودمعاً، لقد كنت أفكر بمئات الأفكار المشابهة، وأستشعر المشاعر المبتهجة التي تقذفها الشاشة في عيني لتستقر في قلبي، إن ما شاهدته في تلك اللحظة قد جعل عينيَّ تغصان بالدمع، كم منّا يتمنى أن يحظى بلحظة مماثلة من السعادة والارتياح؟ هذا الإحساس الذي إذا حصلتَ عليه فلا يضرك ألا تحصل على شيءٍ بعده، لا يأتي إلا بالعمل الدؤوب والجهد المرهق، الثورة المصرية تعلمنا أحد أهم دروس حياتنا بفوز مرسي وانتخابه رئيساً لمصر بعد الثورة. تقلبت الدنيا ودارت فخرج من السجن إنسان ليعتلي العرش رئيساً، ونزل من العرش إنسان ليدلف الزنزانة سجيناً، ولا شماتة، فالأيام دول ولا يظلم ربك أحداً، تلك سنة الحياة يومٌ لك ويومٌ عليك وكما تدين تُدان، وهذا في حد ذاته درسٌ عظيم يهز القلوب، فكم سمعنا مثل هذه الحكم في كتب التاريخ والأساطير، وكم عددناها من المبالغات المثالية التي يحب الجدود والجدات حشوها في رؤوسنا الصغيرة أثناء سردهم للقصص كي ننام مبكراً، ولكن أن تراها بعينك هو أمرٌ ينبغي ألا يغيب عن ذهنك، ويرسِّخ لديك عقيدة عدم الأمن من مكر الله، والله خير الماكرين، وحريٌ بالدكتور محمد مرسي أن يستشعر هذه اللفتة التاريخية الكونية فيحني رأسه لله معترفاً بضعفه وذله وأن يعلم أنه لم يكن ليبلغ هذه المنزلة لولا إرادة الله وحده، فكم تقلبت به الأحوال أثناء الانتخابات كما تقلبت به قبل الانتخابات، حتى إنه ما كان إلا «مرشحاً احتياطياً»، وكان في بدايات الاستفتاءات يتذيل القائمة لا يكاد يدري عنه أحد، ثم هو الآن قد اعتلى المنصب الأعلى، والفضل في ذلك لله وحده لا لعبقريته ولا لعبقرية حزبه. يجب أن نفهم أن الدكتور محمد مرسي يمثل الآن شعباً كاملاً قد توافق عليه إما بانتخابه أو بالرضى بنتيجة الصناديق، ولا يمثل جماعة الإخوان المسلمين وحدها، كما أن فوزه يعتبر رمزاً لا نتصار الثورة ككل لا رمزاً لتسيد الجماعة التي ينتمي إليها، إذ إن انتصار مرسي لم يكن ليتم -بعد توفيق الله- إلا بمساندة المرشحين الآخرين له، وهم ينتمون لأيديولوجيات مختلفة وينتهجون سياسات معاكسة ولهم أجندات مناهضة لجماعة الإخوان المسلمين، ولكن توحد الصف لنصرة الثورة كان أمراً في غاية النضج، وهو درس عملي ناجح وأنموذج حي وواقعي يصلح تنبيهاً لنا جميعاً، إلى أن نتجاهل اختلافاتنا الفرعية، ونستشرف بأعيننا وقلوبنا الهدف الأسمى الذي ينبغي أن نصل إليه: الوطن الواحد، أو الأمة الواحدة، أوالدين الواحد، حينها سنحصل على مثل هذه النهاية المرضية. على كل حالٍ، فقد قطع الدكتور محمد مرسي على نفسه وعوداً عديدة أثناء حملته الانتخابية وكل العيون عليه الآن، لا شك أنه -سواء نجح أو فشل- سيكون أحد دروس الثورة المصرية، وأختم بجملة طالما تمنيت أن أقولها: المعلم مرسي انتصر يا رجالة!