كنت في اجتماع ثقافي، منذ أيام، نمهد لإحدى المناسبات المهمة لهذه البلاد مع جمع من المثقفين السعوديين نناقش برامج هذا الحفل ليصرخ أحد المحاورين فجأة ويقول «يتلبسني إحساس دائم منذ زمن بأني «أصرخ في غرفة مقفلة»! ذكرتني كلمات الصديق بأبيات لشاعرنا العظيم نزار قباني، تقول: (حين يصير الناس في مدينة ضفادع مفقوءة العيون، فلا يثورون ولا يشكون، ولا يغنون ولا يبكون، ولا يموتون ولا يحيون، تحترق الغابات، والأطفال والأزهار، تحترق الثمار، ويصبح الإنسان في موطنه، أذلّ من صرصار..!) -الأعمال السياسية ص 17 (قصيدة الممثلون) بيروت 1974 وبكل موضوعية أعترف بأن سقف الحرية في بلاد الحرمين مرتفع، وأعترف بأني لا أتردد في كتابة كلمة يمليها علي ضميري وفكري منذ بدايتي الأخيره مع جريدة «الشرق» الغراء… ولكن هاجسي، دائماً، هو ألّا أكون من صفوف المثقفين «المتمجدين»، المثقفين الذين يطاردون المثقفين «الماجدين»… فهاجس أن أكون أحد مثقفي السلطة يطاردني! ولمن لا يعرف قدرات مثقف السلطة، فلنذكره بأن هذا المثقف قادر على صوغ ترسيمة نظرية عن (الكلمة/ الرصاصة) وليس مهماً لمن تتوجه الرصاصة! فهو مثقف يعيش حالة ذعر السقوط الدائم. والمثقف «المتمجد» حسب الكواكبي هو عكس المثقف «الماجد»! فالأول مثقف سلطة والثاني مثقف مجتمع، حيث هذا المثقف العضوي صاحب الهم الوطني والديمقراطي مطوق بالخوف من الوحدة والعزلة عندما يجد أنه غريب، و»أغرب الغرباء من كان في غربته غريباً».. وفق الصياغة المتأسية التي عبر عنها أبو حيان التوحيدي بلوعة صوفية حارقة! إنها غربة المثقف الماجد الذي يعلو بقامته الفكرية والروحية على زمنه الرديء، وذلك مبعث رأي بلزاك في «أن الوحدة الخلقية هي أشد أنواع الوحدة رعباً» أو بتعبير الحديث الشريف: «فالمنبت لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى». صديقنا المثقف «يصرخ في غرفة مغلقة»! لسبب بسيط؟ فقتل الفردانية في الفرد تحول مجموعة الأفراد في كل مجتمع من «رعية» إلى «رعاع»! والرع هو من لا يملك شروى نقير، إنه المعدم الذي لا يملك إلا ما يرعاه يومياً… وعلى هذا فهو لا يملك حتى نفسه! ولا يملك منظومة قيم روحية وأخلاقية ووجدانية تؤهله لاستعادة نفسه ودمجها في النظام الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع… وهذه الرعاعية تشكل الخزان البشري لكل أجهزة القمع في الدولة الأمنية العربية، وهؤلاء لا يبعثون الخوف في نفوس الخلق فحسب، بل ينتجون حالة من الذعر المعمم، هو نتاج علاقتهم بماضيهم الذي يحملون نحوه رعباً ورهاباً من أن يعودوا إليه… فعندما يفقد الفرد منا حسه بالمواطنة، يخلق رابطة من حوله توحده حول الخوف وداخله! وتربطه بالكتلة الجماهيرية الكبرى من الوطن… فيتكون مجتمع الإقصاء المتبادل من أفراد ينتمون لطبقات بعدما جردوا من هوية «المواطنة»! ليرتدوا على المستوى الروحي والذهني إلى حالة من التكسير والتفتيت، فتستبدل رابطة المواطنة، برابطة الدم، القرابة العائلية، العشائرية، الطائفية… مما يجعلهم أكثر تفتيتاً. وهذا ما يفسر إحساسك صديقي المثقف، المفتت الذي «يصرخ في غرفة مقفلة… والله المستعان.