تتسلل سلاحف بحرية من المياه الزمردية لتضع بيوضها في الرمل الأبيض، على بعد كيلومترات قليلة شمال أبوظبي، بينما تتجول الغزلان الصغيرة بالقرب من الشاطئ مقتربة بهدوء من المنشآت الفاخرة التي بدأت ترسم ملامح جزيرة السعديات، أو جزيرة المتاحف. وقبل عقود، كانت الجزيرة التي تفصلها عن أبوظبي ممرات بحرية ضحلة تملأها أشجار المنغروف، مرسى لصيادي اللؤلؤ. أما اليوم، فبدأت تستقبل زوارها وسكانها الأوائل، على أن تحتضن قبل العام 2018 ثلاثة متاحف ضخمة هي اللوفر وغوغنهايم، إضافة إلى متحف الشيخ زايد الوطني. وجزيرة السعديات التي تطورها “شركة التطوير والاستثمار السياحي” (تي دي إي سي) التابعة لحكومة أبوظبي لم تعد مجرد مشروع. فخلف رمال الشاطئ الطبيعي الممتد على طول تسعة كيلومترات، تنتصب صروح سياحية فاخرة، مثل فندق سانت ريجيس الذي تملكه “تي دي إي سي” ويبدو مثل قصر أبيض ضخم يعانق زرقة البحر. ويفصل بينه وبين فندق بارك حياة ميلين من الشواطئ العذراء، بينما يحتضن نادي مونتي كارلو القريب أثرياء أبوظبي الباحثين عن الهدوء، وعن شيء من إمارة موناكو في الخليج. وخلف هذه كلها ملعب ضخم للغولف يضم 18 حفرة، ويمتد على مساحة 12 هكتاراً، وتتخلله كثبان رملية طبيعية أبقي عليها للمحافظة على الأعشاب والأزهار الفريدة التي تنبت في هذه البقاع القاحلة من الأرض. وقال بول بوث الذي يدير نشاطات الغولف في النادي “لا يمر يوم لا نرى فيه الغزلان تقفز بين تلال الملعب. الرجال الذي يأتون للرياضة ينسون المال الذي يدفعونه ويتفرجون على الحيوانات”. والملعب الذي صممه أسطورة الغولف غاري بليير يلامس رمال البحر من جهة والصحراء من جهة أخرى، و”هذا أمر فريد على مستوى العالم” بحسب بوث. ويؤكد الزوار يومياً أنهم يشاهدون الدلافين بأعداد كبيرة في المياه الضحلة المتداخلة مع عشب الملعب. ولا يسير زوار نادي مونتي كارلو مباشرة على رمال البحر، بل على جسور وممرات مرتفعة، حفاظاً على بيوض السلاحف المدفونة تحت الرمال. وقال متحدث باسم “تي دي إي سي” لوكالة فرانس برس إنه “تم تحديد منطقة عازلة بين مناطق التطوير ومواقع إباضة السلاحف على الشاطئ. ويتم أيضاً تطبيق قواعد صارمة بالنسبة إلى الإضاءة والضجة الصادرتين من المنشآت السياحية كي لا تؤثر بأي شكل من الأشكال على الحياة الطبيعية للسلاحف”. وفي أبريل من كل سنة، تتجه آلاف السلاحف البحرية العملاقة إلى شواطئ السعديات مخترقة خطوط الملاحة النفطية، وتضع بيوضها الثمينة خلال الليل في الرمل. وفي غضون ستين يوماً، تخرج إلى الحياة أفواج جديدة من السلاحف، وتنطلق في مغامرة محفوفة بالمخاطر من أجل الحياة خلف الأمواج. وتتكرر هذه الملحمة سنوياً. وخلال العقود الماضية، لحقت بطبيعة الجزيرة أضرار نتيجة إقامة صناعات ثقيلة مرتبطة بالنفط عليها، وبسبب إقدام السكان على استخدام شواطئ الجزيرة للسباحة والاستجمام، إلا أن ذلك قد انتهى الآن. وقال المتحدث “لقد أقمنا مشاتل لأشجار المنغروف، ونقوم بإعادة استصلاح أي بقعة تتلف فيها هذه الأشجار التي تعتبر بالغة الأهمية بالنسبة إلى النظام البيئي ولمكافحة تغير المناخ”. وتقوم “تي دي إي سي” أيضاً بإعادة استصلاح الكثبان الرملية الشاطئية التي تحتضن تنوعاً بيئياً فريداً. إلا أن الجزيرة ما زالت تنتظر معالمها العمرانية الأبرز، وهي المتاحف الكبرى. وفي مبنى “منارة السعديات” على الجزيرة، يمكن الزوار مشاهدة كيف ستبدو هذه البقعة الهادئة عندما تنتهي أعمال إنشاءات المتاحف في العام 2017، وذلك من خلال مجسمات دقيقة. وسيفتتح متحف اللوفر الباريسي فرعه الأول في العالم على أرض “الحي الثقافي” في السعديات عام 2015. وسيحتضن هذا المتحف الذي صممه المعماري الفرنسي الشهير جان نوفيل مجموعته الخاصة التي بدأت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة باقتنائها، كما سيستفيد من اتفاقية استعارة الأعمال الفنية من المتحف الباريسي. وستعلو هذا المتحف الذي ستصل مساحته إلى 87 ألف متر مربع، قبة بيضاء ناصعة ضخمة تدخل منها أشعة الشمس عبر فتحات متشابكة تذكر بانسياب الضوء من بين الأوراق المسننة والمتشعبة لأشجار النخيل في الصحراء. أما متحف الشيخ زايد الوطني، فسيفتتح في العام 2016 وسيستفيد من اتفاقية تعاون مع المتحف البريطاني. والمتحف الذي سيركز على الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم، صممه البريطاني نورمن فوستر، وهو يجسد خمسة أجنحة صقور. والمتحف الأخير المنتظر هو متحف غوغنهايم المخصص للفن المعاصر. وأطلق المعماري الأمريكي فرانك غيري العنان لخياله مثل العادة لوضع تصاميم هذا المتحف الذي تتداخل فيه الأشكال المخروطية والمربعة في مزج بين المعدن والإسمنت والخشب. وسينجز هذا المتحف في 2017. وليس في “منارة السعديات” أي منارة، بل إن “السعديات هي المنارة للعالم من خلال ما ستحمله عبر متاحفها”، بحسب أحمد الذي يستقبل الضيوف في المبنى. ويحتضن المبنى نفسه حالياً معرض “كنوز ثقافات العالم” الذي يضم 250 قطعة من الحضارات المختلفة من جميع القارات لإظهار التداخل والتواصل بين الحضارات والشعوب. وسيكون هذا المعرض نواة متحف الشيخ زايد الوطني. وكانت حكومة إمارة أبوظبي الغنية بالنفط والتي تسعى لتكون عاصمة ثقافية للمنطقة، قررت إجراء عملية مراجعة لمشاريع ضخمة كانت قد أطلقتها، من بينها مشاريع جزيرة السعديات، على ضوء الظروف الناجمة عن الأزمة المالية العالمية وتغير الظروف الاقتصادية للعالم جذرياً منذ إطلاق هذه المشاريع في 2006. وقدرت قيمة المشاريع التي تمت مراجعتها بثلاثين مليار دولار، بحسب تقارير صحافية. وكما في كل مشروع ضخم في الخليج، يثار جدل حول ظروف عمل وإقامة آلاف العمال الأجانب الذي يقومون ببناء هذه “الأهرام” الحديثة في السعديات، ولا سيما من قبل منظمات حقوق الإنسان وأبرزها منظمة “هيومن رايتس ووتش”. ورداً على هذه المخاوف، أقامت “تي دي إي سي” قرية خاصة للعمال مساحتها 21 هتكاراً، ويعيش فيها حالياً عشرة آلاف عامل. وفي مشهد يتناقض مع الصورة النمطية لمساكن العمال في دول الخليج، تؤمن هذه القرية للمقيمين فيها ملاعب رياضية ومطاعم وأندية صحية، إضافة إلى الإنترنت ومراكز التعليم. أ ف ب | أبو ظبي