عندما فاز الحزب الوطني بأغلبية تقارب 97% من مقاعد مجلس الشعب المصري في نهايات عام 2010م قبل اندلاع الثورة بقليل كانت تعليقات الشارع المصرية الساخرة تقول بأن ما حدث «عملية تزوير شابتها بعض الانتخابات» لنقارن أجواء تلك النتيجة مع أجواء ليلة انتظار النتائج والترقب في انتخابات الرئاسة المصرية لمن يتحدث عن التغيير. البعض لا يريد أن يعترف بأي تغيير إلا إذا حدث استئصال كامل للماضي. المفاجأة في مسابقة الرئاسة المصرية أنها كانت واقعية ومنطقية ومعبرة عن التعدد في المشهد المصري. وبعيدا عن تفاصيل الأرقام التي تعبر بمجملها أن قوى التغيير أكثر بما يقارب الثلثين، وحتى الثلث الآخر سوق لحملته باسم التغيير والثورة وليس باسم الماضي فهو يشارك القوى الأخرى في شيطنة الماضي ويعلنوا أنه لن يعود! سادت وما زالت حالة عدم رضى عند الكثير من القوى الثورية الشبابية في مصر من النتائج التي وضعتهم في مأزق ودرس سياسي سيعلمهم الكثير من التواضع والواقعية وأهمية التخفف من الشروط المثالية للقبول بالشخصيات القيادية السياسية. كان الغضب على النتائج أكثر من العملية الديمقراطية، وهم يشاهدون أصواتهم مشرذمة مع أنها كان يمكن أن تحسم الأمر من الجولة الأولى بشيء من التنظيم. وأول من توجه له التهمة ليست تلك القوى التي تتآمر على الثورة في نظرهم وإنما لأخطائهم السياسية خلال الفترة الماضية التي وضعتهم أمام اختيار صعب بين «المصيبة والمصيبة السوداء» وفقا للتعبيرات المصرية الساخرة من المأزق فهذه نتيجة ومحصلة واقعية للمرض الثوري المستمر في رفض أي شخصية سياسية بمعايير مثالية لمن يحق له أن يعبر عن قوى التغيير منذ أن خرج البرادعي من المنافسة. كان تقدم شفيق مأزقا لقوى التغيير وتحديا من نوع مختلف عبر العملية الديمقراطية والصناديق. اعتراضات قوى التغيير الحالية بعد النتائج ليس لها قيمة. كان الفخ السياسي الذكي من العسكر هو تقديمهم لشفيق مع عمر سليمان في البداية قبل سحب سليمان بقانون العزل والاعتراضات التي قدمت، مما أرضى قوى التغيير، فأصبح الاعتراض على شفيق ليس بتلك الحماسة مقارنة بعمر سليمان. المشكلة الثانية بالنسبة لقوى التغيير التي ستؤثر على حسم النتائج في جولة الإعادة هو مرشح الإخوان بعد أن خسرت الحركة الكثير من شعبيتها أو حتى سكوت المحايدين ضدها بعد أداء وخطاب سياسي رديء أحرج أنصارها قبل خصومها. فقد انشغلت الحركة بالغنائم السريعة مع القوى الإسلامية الأخرى لأنهم أكثر المستفيدين من التغيير وأهملوا تأثير القوى الأخرى وظنوا أنهم قادرين على الحسم دون الحاجة إلى غيرهم. تبدو مشكلة الإخوان السياسية أنها معارضة من منتجات الأنظمة السابقة فهي فلول من نوع آخر في تفكيرها، ولهذا استطاع الصحفي إبراهيم عيسى بحملته المستمرة ضدهم التأثير على شعبيتها بالانتخابات الأخيرة بمقولات الكثير من قيادييها في الماضي والحاضر. لقد اضطر بعض شباب التغيير لتأديب الإخوان وإجبارهم التصويت لشفيق كما أشار لذلك محمود الأزهري في جريدة القدس العربي 30 مايو 2012م وأن «نجاح شفيق سيجبر جماعة الإخوان وباقي الجماعات الدينية على الرجوع لصفوف الثوار مرة أخرى» وهو ما يبدو أنه حدث حيث بدأ الإخوان بتقديم مهرجان تنازلات في خطابهم بعد النتائج. لهذا فالفوز في جولة الإعادة لن تعبر مطلقا عن شعبية أحد الطرفين بقدر ما تعبر عن الأكثر كرها في وجدان الشارع المصري لهذا الطرف أو ذاك، وحتى تقدم التيار الناصري الذي بدأ يدغدغ عواطف مترسبة من الماضي عند البعض فقد كان جزء كبير منه نكاية بالتيار الإسلامي. وكانت أهم التفسيرات لفشل أبو الفتوح وموسى هو الدعاية الإعلامية التي توقعت أنهم سيكتسحون الأصوات فأرادت الأصوات الأخرى إحداث شيء من التوزان. لقد فوجئت قوى التغيير بالرغم من خسارتها والخروج المبكر من المسابقة أن لديها حضورا أكثر مما توقعته ولهذا ندمت على تفريطها السابق وأنها بشيء من التنظيم والحشد والتوافق كان يمكنها الحسم المبكر. وهي درس صعب لجميع الثوريين وغيرهم أن الممارسة السياسية تتطلب الكثير من التحالفات البعيدة عن المثاليات لأنها تفرض قدرا من التنازل عن الشعارات، لأنها تختلف عن لغة المياديين والمهرجانات الخطابية في ساحات الإعلام الجديد. كان التفتت بالأصوات هو المفاجأة الكبرى لأنه مؤشر على نضج واعتدال في الشارع فلم يكتسح أي مرشح الساحة وظلت الفروقات محدودة، ولم تعد الشعارات والفتاوى تسير عاطفة الجماهير. تعبر هذه النتيجة عن مؤشر أولي بالتخلص من ذهنية الشخصية المنقذة، ولهذا حتى المنتصر سيشعر بالتواضع وعدم الغرور. الطريف في هذه النتائج أنها كشفت أن بعض النخب تظن أن الديمقراطية تأتي بالأحسن وهو مؤشر على ضعف الفهم السياسي، فلم يقل أحد أنها تأتي بالأحسن، ويستحيل نظريا وتاريخيا أن تأتي بالأحسن هي باختصار تحسن أجواء العمل السياسي فتجعل الأسوأ فيها أحسن من الأفضل بدونها. تعامل الكثير من المعلقين والكتاب مع المشهد المصري وفق رغباتهم وأمنياتهم الشخصية أكثر مما هي قراءات واقعية تفصل بين ما تريد وبين معطيات الواقع، لمجتمع تمثل كتلتة السكانية ما يقارب من ثلث العرب. ولهذا عبرت النتائج لهذه الانتخابات الأكثر نزاهة في التاريخ المصري عن جزء كبير من طبيعة وشخصية مصر، التي تميز بقراءتها جمال حمدان في كتابه الشهير « شخصية مصر..عبقرية المكان والزمان « قبل أكثر من ربع قرن. في إحدى معالجاته النقدية كان يعلق على مقولة أن الشخصية المصرية «أبعد عن الثورية الجامحة المتطرفة» لكنه ينتقد هذه الميزة ويعتبرها عيبا « وأنها نقطة الضعف الكبرى في كل كيان مصر والنقطة السوداء للأسف في كل تاريخها ومصدر الخطر على مستقبلها « فهو يرى أن الاعتدال «آفة الشخصية المصرية» لأنه يضعف الحسم، ويطرح عنوانا غريبا لهذه المشكلة في نظره «مأساة الحل الوسط « لأن «مصر لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الجذري الرديكالي قط وإنما الحل الوسط المعتدل « إن جمال حمدان يرى « أن مأساة مصر في هذه النظرية هي الاعتدال فلا هي تنهار قط ولا هي تثور أبدا «ولهذا يقول إن» مصر سنة 1984م ميلادية هي سياسيا كمصر سنة 1984 قبل الميلاد»!