السعي لتحقيق الأهداف السهلة، أو البحث عما هو سهل، أو دعنا نطلق عليها «ثقافة السهل» ظاهرة تستحق البحث والدراسة في مجتمعنا. لا يمكنني أن أتجاهل هذه الظاهرة التي أكاد ألاحظها بشكل يومي، فكثير ما أسمع عن شخص يبحث عن تخصص سهل، وظيفة سهلة، جامعة سهلة، طريق سهل، نحن مجتمع مولع بالوصول بأسهل الأسباب! في حين أننا لو حاولنا وضع معيار ثابت لتعريف ما هو المقصود بالشيء السهل، لفشلنا مقدماً ذلك لأننا نسعى لتحديد شيء هلامي، ليس له معيار ثابت أو مقياس دقيق حسب المنهج العلمي. وبالتالي، لا أستغرب أن ينتج عن أصحاب معتنقي هذا المنهج أو أصحاب هذه الثقافة ناتج يستحق الاعتبار. على الجانب الآخر، التعامل مع الأهداف بغض النظر عن مستواها صعبة كانت أم سهلة وذلك بوضع خطة منهجية أو زمنية متدرجة تساعدنا لتحقيق تلك الأهداف سنكتشف لاحقاً أن تحقيق الأهداف بالمنهجية أسهل بكثير من البحث العشوائي عما هو سهل! دعني أقول من تجربة خاصة، منذ اليوم الأول لوصولي فيه إلى مقر الابتعاث لقد قابلت طلابا وطالبات مبتعثين، لم يحددوا بعد التخصص الذي يرغبون الدراسة فيه، لكن ببساطة أعلنوا توجهاتهم برغبتهم في الدراسة في تخصص سهل في جامعة سهلة ومدينة سهلة وغير مكلفة! ومازلت حتى الآن لا أستطيع أن أفهم كيف لإنسان يقطع آلاف الأميال دون وجود هدف مسبق فقط بحثاً عن غاية سهلة في النهاية! ما يؤسف حقاً مدير العلاقات الثقافية ذلك الحين في الملحقية الثقافية حينما أجبته عن سؤاله بأن تخصصي قانون قال: إنه تخصص صعب جداً! ليس ذلك فحسب، أحد الموظفين المسؤولين عن القبول في الجامعات، حينما سألته عن كيفية التقديم في جامعة هارفارد في تخصص القانون، فما كان رده إلا أنها من الجامعات الصعبة ومن الأفضل ألا أفكر في ذلك! حقيقة مؤسفة، أن تتمحور تجاربنا وأحكامنا بهذا المعيار السطحي لتقيم الأشياء، علماً بأنه لا يوجد هنالك معيار ثابت لما هو صعب أو سهل، كما إن النتائج تقاس بما نبذله تجاهها من جهد ومحاولة، خاصة إذا اتبعنا خططا منهجية مقدما لتحقيق هذه الأهداف. ولا أستثني نفسي من هذه الظاهرة السلبية، مازلت أتذكر أول يوم دراسي لي في الجامعة، كيف كانت تعلوني ابتسامة مشرقة ومعي دفتر وقلم رصاص في محاضرة القانون الدولي لأستاذ مشهور في الجامعة! ما أن دخل وبدأ الحديث الافتتاحي معرفاً بالمادة حتى فتحت الأجهزة المحمولة وبدأ النقر على لوحة المفاتيح، وأنا في دهشة مثل بطلة فيلم Legally blonde أتطلع لمن تجاورني في المقعد وهي تكتب، استرق النظر وكل ظني الأستاذ بعد لم يقل شيئا فماذا تكتب؟! هذه الفتاة لم تفلح ابتساماتي ولطفي معها في المحاضرات القادمة في أن تعيرني النوتات أو الملاحظات التي تكتبها، بل عاملتني بجفاء حينما طلبت منها ذلك! الطلاب منذ أول يوم بدأوا بتكوين مجموعات دراسية، ومعدل القراءة اليومية لهذه المادة كان هائلاً جداً. وحدث أنني سألت الأستاذ سؤالا عابرا خلال المحاضرة الذي على ما يبدو استسخفه ولم يعجبه فما كان منه إلا أن عنفني أمام الجميع على «السؤال الغبي». في النهاية قررت أن أسحب المادة لأني حدست بأني لن أحصل فيها على علامة جيدة، وتحدثت بذلك لأحد الزملاء الأمريكيين، فما كان منه إلا أن وبخني حينما قلت له المادة صعبة، فقال لي: pay money you مقابل أن تدرسي في هذه الجامعة، لا بد أن تتحدي نفسك، لا أن تدرسي مواد سهلة! فقلت له: بل أتفق معك: كانت فكرتي أن أتحدى قدراتي، لكن بدأت أخشى ألا أحصل على علامة جيدة فيها. فنظر لي بازدراء وقال: هل تهتمين بذلك حقاً المهم هو الاهتمام بالمعرفة knowledge. خجلت من نفسي بعد حديثي معه، وشعرت أنني أمارس في عقلي الباطن نفس الطريقة التقليدية في تقييم الأمور وإطلاق الأحكام السطحية، وأن كل ما أهدف إليه هو أن أدرس أحصل على علامات جيدة، مع أن التحدي وشرف المحاولة لا يخضع إلى معيار الإخفاق والنجاح، بل بمعيار الفائدة المعرفية والتجربة الحياتية. كنت أستغرب وأنا أرى بعض زملائي الذين يعملون في نفس الوقت مقابل تسديد أقساط الجامعة التي دخلوها بالمعنى الحرفي – بعرقهم وجهدهم الذاتي- يتحدون أنفسهم رغم صعوبة المواد وحجم المتطلبات الهائل في مقابل التحضير والاستعداد. فقررت أن أجازف بنفس الطريقة، لكنني ظللت على تحفظ من المشاركة في محاضرة أستاذ القانون الدولي بعد حادثة السؤال تلك! لكن بعد عدة أشهر في إحدى حلقات النقاش التي كان قد استضاف بها محامية ناشطة في حقوق الإنسان من نيجيريا وكان محور الحديث الإسلام وحقوق الإنسان، وجاء الحديث عن الطفلة الصومالية التي اغتصبت لكنها عوملت معاملة التي ارتكتب جريمة الفاحشة ورجمت حتى الموت من قبل المحاكم الإسلامية في الصومال، حينها شعرت بأن الحديث بدأ يأخذ منحى سلبيا عن قواعد الشريعة الإسلامية فما كان مني إلاّ أن قدمت مداخلة للتفريق بين قواعد الشريعة الإسلامية والممارسات المتطرفة، وبأن قواعد الشريعة الإسلامية فيها من الرحمة الشيء الكثير وما قواعد تطبيق حد الزنا من التشديد بحيث لا يعقل أن تطبق تلك الحدود على الأطفال وأن انتشار الجهل وانعدام الأمن والاستقرار واستغلال الإسلام في النزاعات المسلحة وظهور الجماعات المتطرفة هو الذي ساهم في ظهور مثل هذه الظواهر في الصومال الذي عانى ويلات الحرب الأهلية لسنوات طويلة، وفي النهاية علقت أن الحل يكون في نشر التعليم والتوعية وهذا ما أقوم به الآن! صمت الجميع بعد مداخلتي فما كان من الأستاذ الذي بقيت على مسافة توجس منه لشهور طويلة إلا أن قال معقبا على مداخلتي بأنه سعيد بها. مرت بعد ذلك سنة، وجاء يوم تخرجي وكنت التقط صورا تذكارية مع أساتذتي، فجاء أستاذ القانون الدولي يلتقط صورة معي، حينها نظر إلى كاميراتي وقال متعجباً: a pink camera?، فأجبته: I was inspired by legally blonde! كما حصلت على عرض من المحامية في أن أعمل معها في الاتحاد الأوروبي كمحامية لحقوق الإنسان لكن العرض أجهض -للأسف- بسبب قطع الميزانية المخصصة لذلك خلال عام الأزمة المالية.