إنه يصرخ بأعلى صوته، ولكن صرخاته لم تطرق مسامعنا، وأناته المؤلمة لم تحرك قلوبنا، إنهم يقتلونه صباحاً ومساء، عجيب هذا القتيل، يحبه الجميع ويشارك في قتله الكثير، لا يسمع صرخات هذا القتيل إلا القلة، ويستغيثون قائلين لا تقتلوه، لا تقتلوه، ولكن هل من مجيب، هل يتوب القاتل عن فعلته ويمسح دمعة المظلوم ويقول له اعْفُ عنا قتلناك ونحن لا ندري؟ إن القتيل هو الفكر الإبداعي الذي يموت قهراً في زمن الطفولة، إن الطفولة هي الإبداع، والإبداع هو الطفولة، ولكي تعرف مصداق هذه المقولة راقب الأطفال وهم يلعبون، بذلك الصندوق الورقي الذي أتى فيه مكيف الهواء الجديد في منزلك، تجدهم تارة يجعلون هذا الصندوق منزلاً لألعابهم الصغيرة، وتارةً يجعلونه مختبئاً، وتارةً يجعلونه عريناً لأسودهم وحيواناتهم المصنوعة من خيالهم المجنح، إنهم يلعبون بذلك الصندوق ألف لعبة ولعبة، ونحن الكبار لا ننظر إلى هذا الصندوق إلا بمنظور واحد، إنه صندوق لمكيف الهواء أو حاوية لتخزين الحاجيات القديمة. إن هذا الصندوق يجعلنا نسأل أنفسنا من أكثر إبداعاً نحن الكبار، أم الأطفال بمنظورهم المبدع الذي طار إلى آفاقٍ لا تكاد تدركها عقولنا الكبيرة بمنظورها الأحادي الضيق؟ ما الذي حصل للفكر الإبداعي منذ زمن الطفولة إلى باقي مراحل حياتنا؟ إن الطفل يتعرض لكثير من الضغوط النفسية التي تعيق طاقته الإبداعية وتخنقها وتكاد تقتلها، وللأسف تعرض هذه الضغوط السلبية في صور إيجابية، وتلبس في بعض الأحيان أقنعة تربوية مزيفة. من أهم هذه الضغوط التي تقتل الفكر الإبداعي في زمن الطفولة الرقابة المستمرة على الأطفال من قِبَل الكبار ونقدهم لأعمال الأطفال وتقييمهم لها، وإقحامهم في منافسات عقيمة مع غيرهم من الأطفال بلا مراعاة للفروق الفردية. هذه الضغوط تجعل الطفل يهتم بشدة لرأي الكبار وتقييمهم، وتجعله يسعى لإرضائهم بدلاً من أن يكون همه من لعبه وعمله إرضاء ذاته الصغيرة عن طريق إعمال فكره الإبداعي المستقل. لذا يجب على البالغين أن يتذكروا دوماً أن ينظروا إلى الطفل على أنه طفل وليس رجلاً في صورة طفل. من الضغوط الضارة بالإبداع الطفولي تحكم الكبار في تصرفات الطفل وتلقينه الكيفية التي يؤدي بها كل شيء في حياته، إنهم يعلمونه كيف يلعب، ويعلمونه كيف يرسم، ويعلمونه كيف يؤدي واجباته المدرسية. إن هذا الأسلوب يعلم الطفل أن الأصالة في الأداء واكتشاف أساليب جديدة ومختلفة يعدان نوعاً من العبث وإضاعة للوقت، إن الكبار بفعلهم هذا يقولون للطفل لا تفكر تفكيراً مستقلاً، اعتمد علينا فنحن الكبار نفكر لك. في بعض الأحيان تأتي بعض الضغوط المضرة بالفكر الإبداعي لدى الأطفال في صور إيجابية مزيفة، ومثال هذه الضغوط المبالغة في استعمال المكافأة التي تجعل رغبة الطفل في الحصول عليها تطغى على اللذة الناتجة من قدرة الطفل على الأداء الإبداعي في كل أعماله، وهنالك مثال آخر لهذه الضغوط المستترة هو تدخل الكبار في تشكيل هوايات الطفل وتوجيه ميوله بدلاً من اكتشاف مواهبه الفطرية وميوله الأصلية وتهذيبها وتطويرها، ونشاهد مثالاً واضحاً على هذا الأمر في جهود كثير من الأباء والأمهات الذين يجبرون أطفالهم على تعلم القراءة ومبادئ الحساب في سنٍ مبكرة جداً. إن من أضر الضغوط على الإبداع الطفولي وأكثرها تستراً: فرض منظور الكبار إلى مسألة الوقت على الطفل الذي تختلف نظرته إلى الوقت عن الكبار، إن الناظر إلى الأطفال حال لعبهم يكتشف أن الوقت في نظر الطفل له سمة انسيابية ليس لها حدود، إن الوقت لا يهم الأطفال كثيراً، وحتى يظهر الفكر الإبداعي لدى الأطفال لابد على الكبار أن يدركوا أهمية إعطاء الطفل الوقت الكافي في لعبه واكتشافاته المستمرة حسب مقياس الطفولة وحاجتها الذي يختلف عن مقياس البالغين وحاجاتهم. إن حب الكبار للأطفال ومشاعرهم النبيلة لا يكفيان لتوفير المناخ الملائم لظهور الفكر الإبداعي المستقل ونموه، لابد أن يصاحب هذا الحب احترام لشخص الطفل وميوله، والإقرار بأنه كائن حي مستقل ومملوءٌ بالطاقات والمواهب. إضافة إلى الحب والاحترام للطفولة يجب على الكبار أن يفهموا بوضوح دورهم في رعاية الإبداع في زمن الطفولة، إن دور البالغين في هذا المجال يتعدى بمراحل المفهوم الضيق للرقابة الخانقة والتحكم العنيد إلى مفهوم أوسع وأرحب يتلخص في: توفير البيئة المناسبة التي تعطي الطفل الحب والتشجيع والوقت الكافي، وتوفر له كل الوسائل الإيجابية المعينة على ظهور الفكر الإبداعي المستقل وتطويره.