إذا أراد (تحت) أن يمرر قناعة أو قراراً (ما) لا يستقيم ومنطق الأمور، قال إن القرار من (فوق)! تماماً مثلما يفعل الموظف مع المواطن البسيط الذي يراجعه مستغرباً ظلماً طاله أو تأخر حق له مثلاً! فيجاب المواطن بأن المسألة من فوق! (فوق)..؟! يا لهذه الكلمة من قدرة عجيبة على (قتل) أي نقاش! إنها الإجابة الحاسمة والمشجب الجاهز سلفاً لتعليق أي تبرير، حتى لو كان لغزاً، بعيداً عن متناول أيدي الحوار... ولتَمُتِ الحيرة بغيظها ولتبلع الأسئلة ريقها وتدفن رؤوسها في التراب الموحل (المطيّن). فإن حدث وتلقيت تلك الإجابة «فوق»، فلا يحل لك من بعدها أن تسأل، بل عليك أن تصوم عن الكلام وتنسى الموضوع! وإذا كنتُ قد فعلت جزءاً من هذا وأنهيت الحديث، فإنني رحتُ أتساءل، وحيداً، بصوت عال: أيُّ فَوْقٍ هذا؟! ثم انتصبتُ واقفاً وأخذتُ أنظر ملياً إلى (فوق): كان سقف الغرفة عالياً، وكان رأسي بشعره الناعم الخفيف، الموخطة مقدمته وجانبيه ببعض شيب، لا يقترب من السقف فضلاً عن أن يلمسه على الرغم من أنني كنت أقفز بشكل جدي من الاتجاهات كافة طيلة فترة النهار، وقد ظل أهل بيتي ينظرون إليّ بدهشة لم يستر امتزاجها بالابتسام خوفهم عليّ من الجنون! في الفناء أو (قَبَل) البيت كما نسميه عندنا في جيزان، (بفتح القاف والباء مع التسامح إزاء تجاوز الناطق منا لمخرج صوت المفتوح الأول) ، سأرفع النظر أعلى وأعلى صوب قضاء الرحمن، أعلّق العينين على سماء العلي المتعالي الكبير: ثمة نجمات تلمع وتشع بوميض ساحر... قمر مكتمل لا تستطيع أكتف الحُجُب أن تصمد أمام مكر رقته، فينجح، بلا عناء، في الانفكاك من قيد سحابة قاتمة وينسلّ منها برشاقة، ثم يسير، على عجل، قاصداً أقصى الشرق، كأنما كان يخشى أن يسرق النوم تلك العيون التي تنتظره وتترقبه هناك كل مساء، في شرفات يظلّلها ورق التوت ويئن فيها النحل ولمّا (يُسفك) عسلُها بعد! هل رأيتم كيف يجعل (تحت) ما يقرره وما هو من صنيعته ذاته، يجعله من مسؤولية أحد الكواكب والنجوم؟! لقد تمنيتُ لو أنني خلقتُ طائراً؟! نعم كنت أنتظر من الخالق، بدعائه والتضرع إليه ليلاً ونهاراً، حدوث معجزة تحولني طائراً كي يتسنى لي الطيران، عالياً عالياً، لعلي أجد كوكباً أو نجمة تدل أسئلتي على طريق الجواب، بيد أني تذكرت أن «الناس طيرٌ لا تطيرُ»!