على النقيض من العدل تأتي الفحشاء، كما ورد في الآية:(إن الله يأمر بالعدل وينهى عن الفحشاء). ولما أمر سبحانه بالعدل، كان بالضرورة أن ينهى في قبالته عن الفحشاء، علماً منه سبحانه أنَّ في غياب الأول جثوم الثاني، وهذا ما كان وما هو كائن، فالفحش بأنواعه وتجلياته كلها (الفحش الاقتصادي والفحش الاجتماعي والفحش السياسي)، باركة على رقابنا لمَّا أهملنا التنادي إلى إقامة العدل وحق الأمة في وجوده وحق الفرد في تحقيقه، وإنَّ أولى الفحش وآكده بياناً الفحش العائم الذي يصيب العامة كلهم، الفحش الذي يصيب البنية الاجتماعية بأكملها ، ولذلك كان الجهر بالسوء وإعلانها من غير مصلحة يراد تحقيقها أمر منكر، لا سيما إن كان هذا الإعلان هو عار عن تحقيق أواصر العدل والمساواة، واقتصر على التشفي وإظهار النقيصة، (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم). واستثناء القاعدة العدلية بإباحة ذلك للمظلوم هو استثناء عدلي بحق، ينيط المجاهرة بقيمة حاكمة هي الصيرورة نحو العدل وروم تحقيقه. هذه المعاني المتضافرة على إثبات العدل كقيمة إسلامية عليا، تجعلنا نؤكد كنتيجة حتمية على نتائج ست، نراها هي الأسس المتينة المفضية إلى فهم الإسلام فهماً صحيحاً، ومن ثم سيرورته دين العدل والقسط، المنزّل للناس كافة، هذه الأسس على الترتيب هي كما يلي: 1 – أساس الوحدة الموضوعية في ذاته، فلا تعارض بين جزئياته وكلياته، بين أحكامه ومقاصده، بين تنظيراته وتطبيقاته، بين متمثليه ديناً ودنيا، تديُّناً وتمدُّناً، بين حقائقه السماوية وحقائق الطبيعة. وفي الأخيرة نستند إلى قول ابن رشد الحفيد في فصل المقال: «لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له»، وفيما قبلها نستأنس بقول الشاطبي: «محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص في جزئي معرض عن كليّه فقد أخطأ». 2 – أساس مبدأ المساواة تنظيراً وتطبيقاً، المساواة الكاملة في الحقوق العدلية، (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الحشر:7. 3 – أساس مبدأ الحرية الفردية، وحق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء وأن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يشاء، ضمن حدود دائرته الخاصة التي لا تخرم حدود الدائرة العامة،(فمن شاء فليؤمن وما شاء فليكفر) الكهف: 29، (لا إكراه في الدين)البقرة: 256. 4 – أساس مبدأ حماية الحقوق الفردية والجماعية، حق الجميع في حفظ الدين أي دين، وحفظ النفس أي نفس، وحفظ المال أي مال، وحفظ العقل أي عقل، وحفظ النسل أي نسل، (لهم ما لنا، وعليهم ما علينا) رواه مالك في الموطأ. 5 – أساس مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه مبدأ كلي لا يستثنى منه أحد خرم الحقوق الفردية والجمعية، (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودِّع منها) رواه أحمد. 6 – أساس مبدأ تقرير المصير، المستمد من فقه الشورى، يبدأ جزئياً وينتهي كلياً، ملزماً في كل مراحله، لا فرق بينه وبين أداء الصلاة وأداء الزكاة من حيث اللزوم والوجوب والحتم، (أقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) الشورى: 38. هذه الأسس الست المستمدة من بديهيات تشريعنا الإسلامي، هي الحاكمة على نداءات حاكميتنا لديننا، ومن دونها فنحن ننادي بالتحاكم إلى أيديلوجيا تتدثر بخطاب شرعي، والواقع يثبت جثوم الأخير، ومتى ما توفرت تلكم الأسس – على ما فيها من تفصيل ليس هذا مقامه – فإن موعود الله بالتمكين لابد حاصل، أما وأنها غائبة فلا تمكين إلا من أخذ بزمام العدل فاقترب منه وتحاكم إليه، وإنَّ الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام كما قال ابن تيمية، ولهذا السبب بعينه ما قامت لديننا قائمة مذ أن تحاكمنا إلى فهمنا المؤدلج الظالم، لا إلى أسس العدل المتينة. إنَّ إحياء هذه المفاهيم العدلية كفيل بإحداث ثورة فكرية واجتماعية، تبدأ من الوجدان فتتدفق إلى العقل فتتمكن في الفؤاد والكيان لتنتشر منسابة على الجوارح والأركان الفردية والجمعية، حينئذ نكون قد فهمنا الإسلام فهماً صحيحاً، ونكون أقرب هدياً للمصطفى عليه الصلاة والسلام، وإن لم يدل الدليل عليه صراحة ونصاً، وقد قعد الشاطبي قاعدته الشهيرة، فقال: «كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه»، ولا أصل كالعدل في مواءمته مع تصرفات ديننا الحنيف.