يستعد المعهد العربي لحقوق الإنسان (مقره تونس) لتنظيم ندوة عربية مع نهاية الأسبوع الأول من شهر مايو المقبل. السؤال الذي سيحاول أن يجيب عنه المشاركون في فعاليات هذا اللقاء يتعلق بالمسألة التالية: هل يمكن اعتبار تجديد الخطاب الإسلامي شرطا أساسيا لإنجاح الإصلاح السياسي والاجتماعي في ظل الثورات القائمة وضرورة من ضرورات حماية الانتقال الديمقراطي من الانتكاس ، وذلك بعد أن انفصل المساران عن بعضهما طيلة المرحلة التي شهدت تأسيس الدولة الوطنية في تونس وفي معظم الدول العربية ؟. هذا السؤال فرضته المتغيرات الجديدة التي أفرزها “الربيع العربي”، والذي من نتائجه انتقال الحركات الإسلامية من دائرة المعارضات إلى دائرة مسك السلطة وإدارة الحكم.وبعد أن كانت حالة التدين في المنطقة ملاحقة ومحاصرة بسبب توجس أنظمة المرحلة السابقة من كل حركة إسلامية قد تمثل تهديدا لموازين القوى السياسية. أما اليوم، وبعد أن أصبحت هذه الأنظمة جزءا من الماضي، تأكد ما كان يخشاه حكام الأمس، حين كشفت صناديق الاقتراع عن فوز ساحق للإسلاميين. فالرؤساء حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح كانوا يقايضون القادة السياسيين في أمريكا ودول أوربا بوضعهم أما أحد الخيارين، إما الاستمرار في دعمهم وبالتالي غض الطرف عن استبدادهم وفسادهم، وإلا سيكون البديل عنهم هم الإسلاميون. وهو ما تم فعلا بعد رحيلهم مباشرة، على الأقل في تونس ومصر، والبقية ستأتي بشكل من الأشكال. هذا الانقلاب السياسي في موازين القوى، بدأ يصاحبه على أرض الواقع تغييرات متفاوتة أو متوقعة في المجالات الاجتماعية والثقافية. وهنا بدأت تتوجس الأوساط الديمقراطية والحركات الحقوقية التي غالبا ما توصف في العالم العربي بكونها علمانية. فهذه الأطراف، وبالخصوص نشطاء حقوق الإنسان يعتقدون بأن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان يجب أن تشكل اليوم الأرضية الثقافية التي يفترض أن ترتكز عليها مشروعات الإصلاح السياسي في المنطقة العربية. لكن في المقابل، يعتقد كثير من الإسلاميين بأن هذه المنظومة ليست كونية، ولا هي ملزمة. ويرفعون في مقابلها الشريعة كمنظومة تستمد مشروعيتها من كونها ربانية. ومن هذه الزاوية يتحول الخلاف السياسي إلى خلاف أيديولوجي وديني. كما يصبح الصراع هدفه مسك السلطة لتغيير المجتمع، عبر تبديل النمط المجتمعي. لكن هل وضع حقوق الإنسان والديمقراطية في حالة تقابل وتعارض مع الإسلام بقيمه وتشريعاته هو أمر حتمي وحالة طبيعية وصحية ؟. طرح المسألة من هذه الزاوية يعتبر خاطئا من الأساس. كما أن ذلك من شأنه أن يشق المجتمعات العربية والإسلامية ويدخلها في حروب باردة مستمرة تستنزف طاقاتها في معارك مغلوطة. لأن العقلاء من الديمقراطيين والحقوقيين يعتقدون أن تهميش الثقافة الدينية، أو العمل على إبراز التعارض بين منظومة حقوق الإنسان وبين الإسلام من شأنه أن يشكل عائقا أمام انتشار هذه المنظومة الحقوقية ويلغم العملية الديمقراطية. كما أن الكثيرين منهم أصبحوا يقولون أن الإسلام يتمتع بقيم تحررية إنسانية مكنته ببناء حضارة مشهود لها بالقوة والتماسك، إلى جانب اعتقادهم بأن اختزال الإسلام في بعض المسائل والأحكام بعيدا عن سياقها التاريخي يعتبر خطأ منهجيا يرتكبه الكثيرون من شأنه أن يطمس القيم الكبرى التي جاء من أجلها الإسلام، والتي بفضلها أنشأ أمة وثقافة ثرية، وأسهم من موقعه في دفع الحضارة الإنسانية خطوات كبرى نحو الأمام. كانت تونس أولى الدول العربية التي فجرت الثورة، وفتحت المجال أمام كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا لكي يتبعوا خطواتها. هذه الثورات لم تكن أيديولوجية في منطلقاتها، ولم يدع أي طرف سياسي أنه يقف وراءها، وإنما جاءت هذه الثورات ديمقراطية في مطالبها، واجتماعية وتحررية في دوافعها.لهذا السبب سرعان ما مرت تونس والدول التي لحقت بها بعد تداعي الأنظمة السابقة إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي، عبر تغيير التشريعات والمؤسسات، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. هذا الانتقال يستوجب الاستناد على فرضية القول أن بناء أنظمة سياسية ديمقراطية في تونس وفي المنطقة العربية لا يمكن أن يتحقق بالعمق المطلوب إلا كان ذلك مرتبطا بتنشيط العامل الثقافي وتفعيله حتى يشكل مدخلا استراتيجيا إلى جانب المدخل السياسي والاقتصادي لإحداث النهوض والتغيير الاجتماعي بأبعاده العميقة، أي جعل التنوير الفكري في خدمة الإصلاح بمفهومه الشامل. لقد استعمل مصطلح الإصلاح الديني بكثافة في إطار السياق الأوروبي، وذلك للإشارة إلى الجهود التي بذلت للتخفيف من حدة المواجهة التي قامت بين الكنيسة من جهة وبين مختلف قوى التحديث الفلسفي والعلمي والسياسي والاقتصادي من جهة أخرى، وذلك من خلال مراجعة المفاهيم الدينية للمسيحية.لكن مع أهمية الخصوصية الأوروبية، إلا أن معظم المجتمعات والدوائر الحضارية التي ارتكزت في بنائها التاريخي على مرجعيات دينية وجدت نفسها تمر بتجارب متشابهة عندما واجهتها مقتضيات الحداثة، دون أن يعني ذلك استنساخ التجربة الأوروبية. أما بالنسبة للمسار العربي الإسلامي، فهو بدوره واجهته نفس التحديات، حيث خضعت الثقافة الإسلامية إلى سلسلة من المراجعات قبل غزو بونابرت لمصر وبعده، وذلك من أجل سد الفجوة بين المرجعية الدينية وبين التحولات المعرفية والاجتماعية والسياسية. بناء عليه، هل يصح وصف هذه المراجعات السابقة أو المطلوبة حاليا بكونها نوعا من أنواع ” الإصلاح الديني ” ؟ . وهل أن منظومة الفكر الإسلامي كما هي عليه اليوم في حاجة إلى مراجعات عميقة لكي تصبح قادرة على إنجاح محاولات الانتقال الديمقراطي القائمة في أكثر من بلد عربي؟. بقطع النظر عن طبيعة الإجابات عن مثل هذه الأسئلة، فالأكيد أن التجربة الأوروبية ليست نموذجا للاقتداء به واستنساخه، لأن لكل سياق ثقافي خصوصياته، ولكل دين بنيته وآلياته الدلالية وحقله المعرفي، إلى جانب أن لكل مجتمع أو أمة أولوياته وتحدياته. لكننا نعتقد في المقابل أن كل مراجعة لا تتم في فراغ، ولا تحقق أغراضها إذا بقيت مقطوعة عن السياق التاريخي، أو أنجزت بمعزل عن المحيط الكوني.