يرى الشاعر نواف الدبيخي أن المديح والتسول بالشعر ليست من اختراع الشعراء الشعبيين، بيد أنه شدد على أنهم بلغوا فيها من الإسفاف مبلغاً لم يبلغه أحد من قبلهم، إذ التاريخ سجل هذا السلوك منذ بدء كتابة الشعر بمختلف اللغات السائدة والبائدة، ومن أول ما سجل في هذا الصدد ملحمة (جلجامش) السومرية وهي أقدم مخطوطة للشعر في التاريخ بعمر يصل إلى أربعة آلاف سنة. وقال نواف في حوار مع «الحياة» أن العرب لم يعودوا ظاهرة صوتية، لأنهم لا يمتلكون أصلاً حتى هذا الصوت الذي كانوا يعبرون به عن أنفسهم فيما مضى، مشيراً إلى أن الشعر في حقيقته موهبة، وليس شعوذة. هل صحيح أن لكل شاعر قرينه من الجن؟ - الشعر في حقيقته موهبة، وليس شعوذة، وإذا سلمنا بصحة هذه المقولة فإننا نلغي موهبة الشاعر، ويصبح بهذا مجرد مراسل أو عامل توصيل طلبات، مع تقديري لهم. لكن دعني أقول لك شيئاً موازياً لاتجاه سؤالك: نعم، لكثير من الذين يسمون أنفسهم شعراء قرناء فعلاً، لكنهم ليسوا من الجن، بل هم من الإنس، فهم شعراء يعيشون معنا وبيننا، يكتبون لأولئك، ويعدلون، ويراجعون، و(كل شيء بحقه) كما هو القول الدارج. هل فقد الديوان المطبوع «قوته»؟ - لا ولن يفقد الكتاب أهميته وقيمته وقوته، على الأقل في المستقبل المنظور والمتخيل حتى الآن، لأن المؤلف، أو الشاعر، عندما يقدم كتاباً أو ديواناً فإنه لا يقدمه لقراء المرحلة فقط، بل إنه يقدمه للتاريخ ومحكمته، تقرؤه وتقيِّمه وتحفظه وتردده ، ومنذ أن اخترع المصريون البردي قبل 4700 سنة، والصينيون الورق قبل 1900 سنة، بقي الكتاب، ومثله الديوان، مهماًّ وقيّماً وقوياًّ. الأمسيات الشعرية أصبحت تستضيف شعراء المسابقات... أين ذهب شعراء النخبة؟ - مِن شعراء المسابقات مَن يقدم شعراً حقيقياً، ومنهم من لا يعرف سوى (اللقافة) والنفاق.. ولا ذنب، ولا كاشف، لكل هؤلاء سوى الاشتراك في مثل هذه المسابقات التجارية، والحقيقة أن المشكلة ليست فيهم، إنما في القائمين على تنظيم تلك المسابقات والأمسيات، وفي معايير الاختيار لمن يشارك فيها. اسأل عن التعصب للقبيلة، والتحزب في المنطقة، والتسابق على النفاق، والتمالؤ بالعلاقات لكن لا تسأل عن الشعر، ولا عن الشعراء. يقولون إن العرب ظاهرة صوتية... هل الشعراء لسان هذه الظاهرة؟ - العرب ظاهرة صوتية، حسناً، هذا عنوان لكتاب جدلي ألفه الكاتب السعودي عبدالله القصيمي قبل وفاته سنة 1996، وخلص فيه إلى هذه النتيجة، لكني أعترض على ما خلص إليه القصيمي في كتابه هذا بإطلاقه الزمني، فالعرب لم يعودوا ظاهرة صوتية، لأنهم لم يعودوا يمتلكون أصلاً حتى هذا الصوت الذي كانوا يعبّرون به عن أنفسهم فيما مضى. أما سؤالك عن كون الشعراء لسان هذه الظاهرة فيدعوني لسؤالك أنت عن الرؤوس التي تحمل هذا الألسنة. سمعة الشعراء الشعبيين ليست جيدة في أوساط النخبة... لماذا يظنون بكم ظن السوء؟ - أوتلومهم؟، أنا شخصيًا لا ألوم أي مثقف لا يحترم الشعراء الشعبيين، أو بعضهم على الأقل، فمن التسطيح إلى التفاهة إلى الارتزاق إلى البيع والشراء. لقد فعل الجوع البدني والنفسي والفكري بهم الأفاعيل وقضى على البقية الباقية من كرامتهم واحترام الناس لهم. صحيح أن لدينا شعراء محترمين كثراً، يكتبون بالعامية أرقى الشعر، لكنهم مغيبون، لأنهم لا يكتبون ما يطلبه المُسْتَمِعُون وال..مُتَسَمِّعُون. هل تكسبت من شعرك يوماً؟ - نعم، تكسبت من شعري كثيراً، تكسبت حنان والدتي، وفخر والدي، وود جدتي، ونخوة جدي، وإعجاب أخواتي، وثقة إخواني، وشوق أحبائي، ووفاء أصدقائي.. فقد كتبت فيهم، ولهم، وبهم، شعراً كثيراً في مناسبات كثيرة، أما ما يلمح إليه سؤالك من التكسب المادي بالشعر، فأنا لا أكتب قصائد مديح أصلاً حتى أتكسب بها. لو وجدت على رف المكتبة في السوق ديوان شعر شعبي وآخر فصيح، وكلاهما لشاعر (فذ)... فأيهما ستشتري؟ - الشعر هو الشعر، بأي لغة وبأية لهجة، وشخصياً لا أحب أن أوضع في موضع التخيير بين الفصحى والعامية أو غيرهما، لأني أنتصر دائماً للشعر، والشعر فقط، بغض النظر عن لغة كاتبه ولهجته.. وإن شئت فأضف اسمه، أنا أشتري وأقرأ دواوين الشعر الفصيح، والعامي، والمترجم، والمكتوب بالإنكليزية، وفي مكتبتي شعر لكثير من اللغات والثقافات حتى الهنود الحمر والغجر. الشعراء الشعبيون كتبوا عن كل شيء إلا السياسة على عكس شعراء الفصحى الذين كتبوا عن كل شيء إلا المديح... فهل تخافون من السجن؟ وهل أنتم متسولون كما يشاع؟ - المشكلة ليست في أن تسجن في مبنى، وإنما أن تسجن في نفسك، في ذاتك، في يأسك.. وتوقف في تهمة الكلام، أو في شبهة الصمت، عموماً تكمن في أن تسجن في الخوف من التفكير أو التعبير. أما ظاهرة المديح والتسول بالشعر، فهي ليست من اختراع الشعراء الشعبيين كما تسمونهم، وإن كانوا قد بلغوا فيها من الإسفاف مبلغاً لم يبلغه أحد من قبلهم، فقد سجل التاريخ هذا السلوك منذ بدء كتابة الشعر بمختلف اللغات السائدة والبائدة، ومن أول ما سجل في هذا الصدد ملحمة (جلجامش) السومرية، وهي أقدم مخطوطة للشعر في التاريخ بعمر يصل إلى 4آلاف سنة، وشعر العرب في العصر الجاهلي، ويجب ألا ننسى أن أكبر متسول في تاريخ الشعر العربي وشعرائه هو المتنبي، وهو شاعرٌ فصيح وعظيم، لكن رزيته أعظم من رزية غيره من الشعراء، فهو لم يكن يتسول الأعطيات ليأكل أو ليشرب أو لِيَكْتَسِي، بل كان يتسول بشعره الحكم والإمارة، وأنا بهذا القول لا أبرر للشعراء، أياً كانت لغتهم، تكسبهم بالشعر، فهو خزي في نظري، لكني أوضح لك أن اتهامك الشعراء الشعبيين بالتكسب بالشعر وتبرئتك شعراء الفصحى هو أمر مجحف. لو طلب منك أن تهجو أحداً.. من سيكون؟ وهل ستذكر اسمه في قصيدتك؟ - أنا لا أكتب بالطلب، ولست خياطاً أفصل القصائد على المقاس، وما الذي تقصده بسؤالك من سيكون المهجيّْ؟!.. أمسؤولاً؟!، أم عالماً؟!، أم تاجراً؟!، أم وجيهاً؟!.. أم أنك تقصد مواطناً يريدُ مواطن آخر أن يهْجُوَه؟!.. اسمح لي هنا أن أخبرك بأنه لم يبق في مُوَاطِنٍ مَوَاطِنَ تحتمل أن يهجُوَهَا مُوَاطِن، ثم أن الهجاء باب مذموم في الشعر وفي السلوك عامة، وأنا لا أطرقه. صحيح أني قد أنتقد سلوكاً ما أو ظاهرة ما لكني أربأ بنفسي وأصونها عن شتم الناس لا بالشعر ولا بغيره.