الرحلات أنواع، فقد يرتحل الإنسان عبر مراحل التاريخ، وقد تكون الرحلة أطيافاً من الآمال يطلقها الخيال في جنبات المستقبل، ومنها الرحلات المعهودة، وهي التطواف في أرض الله الواسعة، ولكن قد تتفق معي أخي القارئ بأن أمتع الرحلات هي التي يستشرف إليها العقل والوجدان حين تلوح الفرصة كي ترخي لنفسك العنان وتنساب بأحاسيسك وتخيلاتك لتتنزه داخل العقول الجميلة، فهي ولا شك فرصة رائعة لتتعرف على طريقة تفكير تلك العقول، ومصدر طاقتها المتجددة، وحينها ستعرف كيف يبدأ الإبداع، وأي الدروب يسلك، وقطعاً ستفيد كثيراً إذا ما ساعدت الآخرين ليوجهوا ملكاتهم واهتماماتهم ليسلكوا هذا الطريق، وليكونوا مبدعين. والعقول المبدعة في مجال العلوم الأساسية تصنع جمالاً غير تقليدي، إنه جمال ناتج من سبر آفاق القوانين الربانية التي خلقها البارئ تعالى، والتي على أساسها تنتظم أمور الكون وظواهره المختلفة. ولأنني كُلفت برئاسة اللجنة الإعلامية في المؤتمر السعودي الخامس للعلوم على أرض مكة الجميلة، ولكون المؤتمر قد عمل خطوة غير مسبوقة على المستوى المحلي باستضافة ثلاثين عالماً كبيراً (قامت «الشرق» الغراء بنشر العديد من هذه المقابلات في الأعداد السابقة)، قلت لنفسي لماذا لا أهتبل هذه الفرصة، وأقوم برحلة داخل عقول كوكبة مميزة من العلماء، ومن ثم أشارك الإخوة القراء بنتائج هذه الرحلة. وفعلاً، اغتنمت الفرصة، وقمت بهذه الرحلة الفريدة، فماذا وجدت؟ وجدت أن هؤلاء العلماء المتميزين، وعلى الرغم من تنوع خلفياتهم العرقية والعلمية، يفتخرون جداً بكونهم علماء في العلوم الأساسية، إنهم يستمتعون بما يفعلونه، وهم فخورون بما يقومون به. إنهم يحبون المجال العلمي كثيراً، ويحبون من يعمل بهذا المجال، وهم بهذا يعتبرون العلم رحماً، ولابد لهذه الرحم من الوصل. وهنا سر من أسرار الإبداع والإنتاج: أن تحب مهنتك، وتحب العمل الذي تعمله. وبمقدار اعتزازهم بعملهم في هذه المجالات إلا أنهم يميلون إلى البعد عن الأضواء، وما ذلك إلا لحبهم للتواضع، وقد يكون هذا أحد الأسباب المؤدية لعدم معرفة المجتمع بفضل هؤلاء العلماء الذين يبحثون في العلوم الأساسية، والتي بدورها تؤدي إلى المخترعات والتقنيات المعاصرة، والتي يستفيد منها الجميع وتلامس حياة الناس اليومية، كالكهرباء والأجهزة الكهربائية، ووسائل التشخيص الطبي المتقدمة، والأدوية، والبلاستيك، والحواسيب الآلية... إلخ. طبعاً هناك استثناءات لهذا التعميم، مثل انبهار الناس بالعالم المرموق ألبرت أينشتاين، لعلاقة أبحاثه بجوانب علمية أثارت فضول كثير من الناس، ألا وهي الطاقة النووية! وعندما سُئل هؤلاء العلماء الكبار عن مسببات انبهار الناس بالأطباء والمهندسين، وعدم معرفتهم وتقديرهم بشكل كاف لدور علماء العلوم الأساسية، ذُكرت عدة أسباب، منها: طبيعة العالم الذي يعمل في مختبره بتركيز شديد، ولا يحب الأضواء الإعلامية كثيراً، وما ذاك إلا لأن العلوم الأساسية هي بداية الأفكار الطبية والتقنية، ولذا فإن الناس لا ترى البدايات، وإنما ترى النهايات، في شكل علاج، أو منتج. أيضاً، هناك سبب آخر: ألا وهو المردود المادي العالي للعاملين في مجالات الطب والهندسة، بسبب طبيعة اقتصاد السوق. لاحظت أيضاً أن جميعهم متفائلون بدور العلوم الأساسية في حل الكثير من المشكلات التي يواجهها العالم، مثل: تراجع الاقتصادات، والحروب، والمجاعات، وإساءة استعمال الموارد الطبيعية، والبيئة الملوثة. وإن كانوا يرون أن باحثي العلوم الأساسية في العالم الثالث ينبغي أن يربطوا أبحاثهم الأساسية بمجالات مهمة، كالمياه، والبيئة، والزراعة، والغذاء، والتآكل، والطاقة. هل هناك صفات معينة تميز هذه العقول الجميلة عن غيرها؟ أجاب هؤلاء العلماء بآراء متعددة، إلا أن أكثر ما يسترعي الانتباه أن الإجابة المشتركة لهؤلاء العلماء ليست مرتبطة بقدرات خارقة لدى هؤلاء العلماء، وإنما هو: العمل الدؤوب والصبر المتواصل. إذن، فالإبداع العلمي يرتبط بشكل أساسي بالعمل الجاد المستمر في بيئة بحثية سليمة. تحفظ العلماء على مقولة شائعة مفادها «إنه بعد الجيل العلمي الفريد لأينشتاين، وشرودنغر، وبلانك، وبوهر، وغيرهم، لم تظهر حقائق علمية ذات صدى، ولم تظهر فتوحات علمية جوهرية». ذكر العلماء أسباباً عديدة لعدم ظهور جيل فريد آخر، ومن ذلك أن البحث العلمي المعاصر تبنى العمل بروح الفريق، ولذا قل وجود العالم الموسوعي المستقل بالشكل الذي كان عليه أينشتاين، وعلماء جيله، بينما ذكر البعض الآخر أن الاحتمال وارد في أي لحظة لاكتشافات خارقة في العلوم الأساسية. كما ذكر البعض الآخر أن هذا التفسير قد وقد لا تعني اليقين ينطبق على حقل الفيزياء، ولكنه لا يصلح أن يعمم على الحقول العلمية الأخرى، فمثلاً علوم الأحياء تشهد ثورة علمية حقيقية في مجال الجينات والخلايا الجذعية. وفي رأيي المتواضع، هناك سبب آخر لعدم ظهور جيل فريد آخر، ألا وهو أن أولئك العلماء الذين ظهروا في بداية القرن العشرين كان لهم اهتمامات أخرى غير البحث العلمي، ألا وهي الاهتمام بالفكر الإنساني العميق، فقد كانت لهم تأملات عميقة في معنى الحياة، وكان لهم مواقف واضحة ضد الحروب والصراعات، وسوء استخدام نتائج أبحاثهم في تدمير المجتمع والبيئة. كما كانوا يعشقون المعرفة، ولم تطغَ عليهم رياح الاستهلاك، وتعقيد الحياة الذي أثر على علماء اليوم، فقد كان هناك اهتمام بالكيف، وليس بالكم، كما يحصل الآن. فهل يعمل علماؤنا المعاصرين بمعزل عن الفكر الإنساني والتأمل في ما وراء الطبيعة؟ إن التأمل في إجابات العلماء يدل على أن هناك عودة، ولو متواضعة، لهؤلاء العلماء لتلك الأمور العامة، والتي أُهملت في جيل علماء ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي نهاية هذا المقال، أدعو زملائي العلماء للاستمرار في التأمل في هذه العقول الجميلة، من خلال قراءة المقابلات التي قمت بإجرائها مع هذه الكوكبة الرائعة من العلماء، ونشرت في الأيام الماضية في جريدة «الشرق».