أحيانا حين أستمع إلى بعض «المثقفين» أو « الدعاة» يتحدثون، أشعر بكثير من الشك. إما أن هؤلاء القوم عرفوا كل شيء، أو أنهم لم يعرفوا شيئا على الإطلاق. كيف ذلك؟ ما الذي يستفزني حين يعرف أحدهم كل شيء؟. الواقع أنه ليست لدي مشكلة أن يعرف أحدهم كل شيء. المشكلة هي التالية: كيف يمكن أن تفكر؟. لا يبدو هذا الأمر واضحا. لذلك سأوضح أكثر: المعرفة ليست معلومات ولكنها في واقع الأمر من شقين. الأول، ما هو مصدر المعلومات وما مصداقيتها. الثاني، هو كيف نقرأ المعلومات، كيف نفهمها، أي: كيف نفكر. من الأمور المزعجة مثلا، أن يتحدث بعض «الوعاظ» عن «الليبرالية» مثلا وهي مفهوم معقد -حينما نظرت إلى حجم التراث الفلسفي الذي يتحدث عن الليبرالية في مكتبتي، شعرت بأن ثمة مشكلة، كيف يمكن أن تتحدث ببساطة عن أمر معقد؟- تجدهم يقولون بأنها تدعو للحرية المطلقة. لا بد فقط بأن أشير بأنني لا أدافع عن الليبرالية لأن لدي مشاكلي معها. وهي مشاكل فلسفية معقدة ليس الآن مجال مناقشتها. إذن، نتحدث اليوم عن «الحرية المطلقة». ليسمح لي القارئ بأن أقفز إلى نتيجة تفكيري أولا قبل أن أسوق الحجج: الحرية المطلقة غير موجودة في أي مجتمع، ولم توجد قط حتى في أكثر المجتمعات بدائية. إذن، الحديث عن «حرية مطلقة» هو هرطقة سطحية لأشخاص لم يفكروا قط. تعرف الحرية، وهو تعريف تبسيطي على أية حال بأنها « قدرة الفرد على التصرف وفقا لما هو متاح له من إمكانيات، دون تأثير سلطة الآخرين عليه. أي هي القدرة على تحديد الخيارات». يفرض هذا التعريف جانبين للحرية حسب «سيكولوجية» الفرد: الأول: سلبي: أي غياب: غياب الوصاية وغياب القيود. الثاني: ايجابي: أي: وجود الاستقلالية للفرد العاقل (العقلاني)، بمعنى أن السلوك الإرادي «للفرد العاقل» يستند إلى حرية، وبذلك توصف أفعاله بأنها «حرة و عاقلة». قد نعود في مقال لاحق إلى جذور المفهوم، لكننا نكتفي اليوم بطرح الحجج لإثبات عدم إمكانية تحقق «الحرية المطلقة». و يبدو لنا من المهم في هذا السياق طرح رؤية عصر الأنوار والتراث الفلسفي الذي استندت اليه أي مقولة «جون ستيوارت ميل» الشهيرة: «أن حرية الفرد تتوقف حيث تبدأ حرية الآخرين». والواقع أن هذا الفهم لمفهوم الحرية ضرب جذوره في فكر عصر الأنوار. إذا ما أعدت قراءة التعريف أعلاه، فأنت أمام حزمة عناصر لا يمكن لها أن «تنفك» عن بعضها. «القدرة على التصرف»: لنفترض جدلا أن لدى الفرد «قدرة مطلقة» – وغني عن القول طبعا أن هذا غير متحقق، لكننا نهدف هنا لدراسة الحالة، لذلك نفترض- على التصرف. أي أن هذا الفرد «يستطيع» القيام بكل ما يريد. ثمة مشكلة أولى ستواجه هذا الفرد: هو لا يعيش وحيدا في هذا العالم. لذلك فوجود الآخرين يفرض «قيودا» ما على هذا الفرد. لذلك فقدرته، باتت غير مطلقة، وبالتالي لا يمكن له أن يحقق «حرية مطلقة». وهذا يعيدنا إلى العنصر الثاني في التعريف: «وفق ما هو متاح»: وهذا المتاح تحدده شروط التجمع الإنساني، مثل القوانين، كما تحدده أيضا أسباب وجودية «ترانزندنتالية». التصور «السيكولوجي» أيضا يطرح مشكلة. إذا كانت الحرية هي وجود «الاستقلالية للفرد العاقل» و غياب «القيود». فالعقل ذاته يفرض سلطة ما، و قيودا كثيرة. حيث إن التجربة تكون قد علمت الإنسان بأن ما هو «خطأ» قد يؤدي إلى تبعات سيئة، هو مما يجب تجنبه حين تقوم ب» الخيار الحر و العاقل». و هذا جزء مما أشرنا إليه سابقا بمفهوم « أسباب وجودية ترانزندنتالية». لذلت فاستقلالية الفرد، وحريته محكومتان دائما بشروط وجوده، فهو بذلك غير قادر على أن يكون حرا «حرية مطلقة». حينما يتحدث البعض، و تسمعهم يقولون «المجتمعات التي تعيش حرية مطلقة منفلتة من كل عقال»، لا يسعك الا أن تتساءل: أين يوجد هذا المجتمع؟. «ان قدرة الدجال....» يقول كوندورسيه».. على تضليل الجماهير، هي أكبر من قدرة العبقري على ايقاظها». و لسؤ حظ الجماهير فان «الدجالين» أعلى صوتا وأطول نفسا. ان الفرد العاقل، قادر على تحديد خياراته ضمن المنظومة الاجتماعية المحكومة بأنظمة و قوانين هدفها حماية حرية كل فرد من أن تؤثر فيها حرية اخر. و الفرد العاقل، قادر على أية حال على تحديد ما يضره مما ينفعه. والشخص غير القادر على ذلك، عليه أن يصف نفسه بأنه غير قادر على استخدام عقله بطريقة مسؤلة، وليدع الاخرين يملون عليه خياراته.