الحكم على الشيء فرع من تصوره؛ هكذا يقول علماء الأصول. ولأن هذا هو الواقع، فإن العلوم الأساسية الطبيعية تقع ضحية لهذا التصور القاصر لدى كثير من الناس، حتى المثقفين منهم، مع الأسف الشديد. وحتى على مستوى مؤسسات التعليم العالي في عالمنا العربي المجيد، تُعامل تخصصات العلوم الأساسية معاملة مواطن من الدرجة الثانية، في حين أنها الأساس الذي تُبنى عليه جميع العلوم التطبيقية الحديثة، من طب وهندسة وفضاء وفلك، وغيرها. والعلوم الأساسية حسب التصنيف المتعارف عليه تشمل الفيزياء، والكيمياء، وعلوم الأحياء، وطبعاً الرياضيات. وسُميت أساسية لأنها في الأصل مستقلة عن العلوم الأخرى التي تُبنى عليها، فالهندسة مثلاً علم تطبيقي يتوكأ بقوة على قواعد صلبة قوية من العلوم الأساسية. ولولا أن يكون المهندس محيطاً بما يناسبه من هذه العلوم، لما كان مهندساً بالمعنى الصحيح. وبقدر ما يبرع المهندس في فهم العلوم الأساسية، بقدر ما يكون بارعاً في تخصصه الهندسي. وكذلك الحال مع الطبيب الذي لابد له من بناء صلب من العلوم الأساسية، ففي الولاياتالمتحدة مثلاً لا يلج الطبيب في برنامج الزمالة حتى ينهي شهادة جامعية فيما قبل الطب، أو في أحد تخصصات العلوم الأساسية، لسببين مهمين: هما القاعدة الصلبة، والأخرى النضج الفكري والعلمي. وفي الغرب عامة، تُقدّر العلوم الأساسية حق قدرها، وتعتبر مهمة جداً في ذاتها، وليس لأنها معبر إلى تخصص آخر. ولهذا، فإن التعليم العام هناك يُعنى بالعلوم والرياضيات أيما عناية، ويجعل منها الفيصل في تفوق نظام تعليمي على آخر. ولذلك تُقام سنوياً مسابقات محلية وإقليمية ودولية شتى في العلوم والرياضيات، منها ما يهتم بمعدل المستوى العام، مثل اختبارات تيمس TIMSS الدولية في العلوم والرياضيات، ومنها ما يهتم بالمقارنة بين متفوقي الدول، مثل أولمبياد الرياضيات الدولي، وغيرها كثير. المهم هو تأصيل مبدأ الاهتمام بالعلوم والرياضيات، فهي في الحقيقة أساس التقدم في سائر العلوم الأخرى التطبيقية والتقنية، وغيرها. ولذا فإن جائزة نوبل التي تُعد الأهم على مستوى العالم، تشمل الفيزياء والكيمياء، ولا تشمل الرياضيات لأسباب شخصية رآها ألفريد نوبل عند إنشائه الجائزة الرفيعة، علماً أن ثمة جائزة مناظرة لها في المستوى تُمنح في الرياضيات، واسمها (ميدالية فيلد). والعلوم الأساسية هي أساس فهم العلوم التطبيقية الحديثة، وهي المحرك القوي وراء الاكتشافات الكبيرة والبحوث النوعية. وما لم تدرك مؤسساتنا البحثة هذه الحقيقة المثبتة عبر التجربة الغربية السابقة لنا بمراحل طويلة، فسنظل عاكفين على إنجازات بحثية لا ترقى إلى مستوى فتوحات مهمة كبيرة تؤهلنا لحصد جوائز ذات وزن ثقيل، فضلاً عن جوائز مشهودة، مثل نوبل، والملك فيصل، وغيرها. وأعود إلى حيث بدأت: (تصورنا في العالم العربي لايزال تقليدياً، ولا يساعد على بناء نهضة حقيقية في ميادين العلم والبحث والاكتشاف).