حذر المؤتمر العالمي «الاتجاهات الفكرية بين حرية التعبير ومحكمات الشريعة» من التساهل في التكفير والتبديع وإطلاق التصنيفات الدينية والفكرية، واصفاً التساهل في التصنيفات بوقود الفتنة، بينما دعا الجاليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية إلى احترام دساتير هذه الدول. وعدّ المؤتمر، الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في مكةالمكرمة ممثّلةً في مجمعها الفقهي، المواجهة الفكرية للتطرف والإرهاب المرتكزَ الرئيس لاجتثاثهما من جذورهما. واعتبر، في بيانه الختامي أمس، أن المواجهات العسكرية، مع أهميتها البالغة في درء خطر الإرهاب، لا تحسم المعركة النهائية معه. وثمّن المشاركون في المؤتمر العالمي مضامين كلمة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، التي ألقاها نيابةً عنه مستشاره أمير منطقة مكةالمكرمة، الأمير خالد الفيصل، خلال افتتاح المؤتمر الأحد الماضي. وعدّ المشاركون، من كبار العلماء في العالم الإسلامي ومفكريه ودعاته، كلمة الملك وثيقةً مهمةً من وثائق المؤتمر. وأبانوا أنها عبّرت عن معالم مضيئة في موضوع اجتماعهم. وكان خادم الحرمين الشريفين، الراعي للمؤتمر، أكد، في كلمته، حرص المملكة على تقديم أنموذجٍ يقتدى به لحماية الحقوق والحريات المشروعة. وأشار إلى حرية التعبير باعتبارها فرعاً أصيلاً من المفهوم الكلي للحرية المشروطة في الإسلام، لافتاً إلى ضوابط الشريعة في هذا الجانب. وبعد اطّلاعهم على البحوث العلمية والفكرية المقدّمة؛ قرر المشاركون في المؤتمر أن تُعدَّ الأمانة العامة للمجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي مشروع «القواعد والضوابط الشرعية في الاتجاهات الفكرية المعاصرة». وستعرِض الأمانة المشروع على الدورة المقبلة للمجمع، ليكون بعد إقراره بمنزلة قواعد تُدعى الجهات الإسلامية المختلفة إلى الامتثال لها. إلى ذلك؛ دعا البيان الختامي للمؤتمر الجهات الحكومية والأهلية في العالم الإسلامي إلى ترسيخ القيم العليا في الدين الداعية إلى المحبة والتعايش. وشدد على وجوب الحيلولة دون أسباب النزاع والفرقة والكراهية. وأكد «من ذلك تفهُّم سنة الخالق جل وعلا في الاختلاف والتنوع والتعددية، والحفاوة بتعدد المدارس الإسلامية في سياق عطائها العلمي والفكري المشروع، واعتباره من مظاهر سعة الشريعة الإسلامية وعالميتها ورحمتها بالعباد». ودعا البيان المسلمين إلى الحذر من ازدراء أتباع المذاهب الإسلامية وأسباب إثارة النعرات المذهبية والطائفية. ودعا، كذلك، إلى تجريم هذا العمل ووضعه تحت طائلة المساءلة القضائية، مشدداً على وجوب احترام رابطة الدين، والتعايش على هديها، والتزام أدب الإسلام في الحوار والبيان العلمي والفكري. ونبّه، في هذا الصدد، إلى أهمية التصدي للقنوات والوسائل الإعلامية التي تثير مفاهيم الكراهية والازدراء والتحريض والتأجيج بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم «لما فيها من المفاسد، وتنكُّب المنهج السوي في وجوب الاعتصام بحبل الله بين المسلمين والتحذير من تفرقهم وتنازعهم». وحذر البيان، في الوقت نفسه، من التساهل في التصنيفات الدينية والفكرية سواءً للهيئات والمؤسسات الحكومية والأهلية أو الأفراد. واعتبر هذا التساهل وقود الفتنة بين المسلمين و»فتيل التطرف والتناحر والتدابر». ونبّه إلى أهمية التمسك برباط المسلمين و»مظلتهم وهويتهم واسمهم الذي سماهم الله به وهو الإسلام»، مع الحذر من الأسماء و الأوصاف الأخرى التي من شأنها الإساءة لهذا الاسم الجامع الحاضن، مطالباً بأن «يكون بيان الحق داخل أصول وفروع هذا الوصف الجامع؛ على منهج الإسلام الحكيم في النصح والبيان». وأفاد المؤتمر بأن الأوصاف المتعلقة بالتوجهات المذهبية في الأصول والمدارس الفقهية في الفروع من الأوصاف الكاشفة التي أقرّها علماء الإسلام سلفاً. وأكد «إنها ليست بديلة ولا مزاحِمة لاسم الإسلام الجامع»، مشدداً «لا يُتوسّع في تلك الأوصاف الكاشفة عما تقرّر في مدونات المسلمين لأي نزعةٍ كانت سواءً لذرائع سياسية أو تنظيمية أو غيرها، ولا يجوز بحالٍ منازعة السلطات الشرعية، وعلى الجميع السمع والطاعة بالمعروف في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرةٍ عليهم، وألا ينازعوا الأمر أهله، ملتزمين جادة الهدي النبوي الكريم». أيضاً؛ حذر المؤتمر من التساهل في التكفير والتبديع والتفسيق. ودعا، في بيانه الختامي، أهل العلم والإيمان إلى التماس الأعذار لإخوانهم وحسن الظن بهم وتبيان الحق والنصح لهم بالحكمة. وطالب بالانتباه إلى سلبيات التعالي والإقصاء، مع «استصحاب أن الحق لا يختص به أحد دون سواه، ولا يحتكره دون غيره»، مشدداً «على الجميع مؤسساتٍ وأفراد أن يتهموا آراءهم قبل اتهام آراء غيرهم، وأن يعلموا أن القناعات لا تُفرَض، وإنما تساق بأدلتها في سياق أدب الحوار وفقه الاحتواء». إلى ذلك؛ طالب البيان الجاليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية باحترام دساتير وقوانين وثقافات هذه الدول؛ والالتزام بخصوصياتها وفق الأدوات الدستورية والقانونية المتاحة، مع التقيّد التام بما تنتهي إليه من حسم نهائي، و»من لم يسعه المقام فيتعين عليه مغادرتها دون إخلال بالنظام أو إساءة للوجدان العام». وأهاب البيان بالهيئات والمؤسسات والمراكز الإسلامية في الدول غير الإسلامية توعية الجاليات الإسلامية باحترام دساتير وقوانين وثقافة هذه الدول. وأكد أن «أي إساءة لذلك من شأنها أن تسيء للإسلام وتنفّر منه أو تضعه في دائرة الاتهام، والإسلام بريء من ذلك كله، وعليها (الجاليات) أن تكون في أعمالها ومناشطها واضحةً شفافةً داعمة للسلم والتعايش، وأن تكون فاتحة خير وإضافةً للدول التي تقيم فيها، معينةً لها ومسهمةً في سِلمها وأمانها، وأن تكون أعمالها الإغاثية إنسانية كما أمر الله تعالى في قوله سبحانه (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيراً)». وتابع البيان في هذا الصدد «لقد جاء التنويه والحث على إطعام الأسير المحارب، فكيف بغيره، وسبقت آية سورة الممتحنة في البر والقسط مع غير المسلمين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (في كل كبدة رطبة أجر)، وعلى المسلمين الحذر في هذا من سلبيات التصنيفات، سواءً لدين أو مذهب أو عرق أو غير ذلك؛ وأن يعوا أن الإسلام عبر تاريخه الطويل لم ينتشر ولم تتقبله القلوب إلا بهذه السعة والرحمة التي بعث الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم حيث يقول الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)». في شأنٍ آخر؛ شدد المؤتمر على أهمية قيام الهيئات الإسلامية، الحكومية والأهلية، بتوعية الشباب المسلم بخطر الأفكار المتطرفة. ونبّه إلى وجوب التصدي للرسائل السلبية التي تبثّها الوسائل الإعلامية الإرهابية، لا سيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والدخول في تفاصيلها وتفكيكها. ونبّه البيان الختامي «ليس في مذاهب ومدارس المسلمين، إنْ في الأصول أو الفروع، داعيةَ تطرفٍ ولا إرهابٍ». واستدلّ بأن الجنوح الفكري حارب كافة هذه المدارس عن قوس واحدة دون استثناء، «كما حاربته هي كذلك»، مؤكداً «حَمَلَةُ الفكر الضال خارجون عن جادة الإسلام والمسلمين، وهم قدر مقدور في كل دين، فليس ثمة دين في أصله متطرف، ولا دين يخلو من متطرفين، والتاريخ الإنساني حكى فصولاً من الوقائع في هذا الأمر لم يسلم منها دين ولا زمان ولا مكان، وإنما تحضر وتغيب بين مد وجزر من حين لآخر». ومضى البيان قائلاً «غير أن الفكر الإرهابي المعاصر يمثل نزعة استقلت بفظائعها الإجرامية عن غيرها». وأوضح «أسبابه تكمن في عدة أمور، من بينها غياب القدوة وضعف دورها، وتنامي ما يسمى بصحوة الشباب المسلم في إزاء ضعف مادتهم العلمية والتوعوية، والانعزال عن المراجع العلمية الموثوقة، وإشعال العاطفة الدينية في الأوساط الشبابية من قِبَل بعض الدعاة بعيداً عن الاستقراء الصحيح للأبعاد الشرعية والسياسية والقراءة الواقعية للأحداث، وغياب قياس النتائج والتبعات»، فضلاً عن «الأخطاء الشرعية الجسيمة في الاستدلال والتكييف والإنزال على الوقائع، والإثارة السلبية للمشاعر الدينية ضد الآخر في الدين أو المذهب أو الفكر، وغياب فقه التسامح والتعايش وفقه الاستيعاب والاحتواء». وأشار البيان إلى أسبابٍ أخرى، منها «سلبيات البيئات الحاضنة في التعامل مع المخالف». وتحدث عن خطورة «ضعف المواد التعليمية التطبيقية المحفزة للتفكير الحر والمستقل بعيداً عن أساليب التلقين والانقياد الأعمى التي تُعدّ في طليعة أسباب تغييب الوعي والتيه عن اليقظة للمخاطر»، مشيراً، كذلك، إلى «الجهل بقواعد الشريعة الإسلامية في الترتيب بين المصالح والمفاسد» و»تفشي ظاهرة الإسلاموفوبيا في بعض البلدان غير الإسلامية وتوظيفها في المزايدات السياسية والإعلامية، بوصفها من أخطر أسباب إثارة العاطفة الدينية والوجه الآخر للتطرف العنيف». في ذات السياق؛ انتقد المؤتمر تجاهل الخصوصيات الإسلامية المنسجمة مع القواعد العامة للدساتير والقوانين والقيم المتحضرة الحاثة على التعايش واحترام حقوق وحريات الإنسان في بعض الدول غير الإسلامية، وذلك بفعل تنامي دور الاتجاهات الحزبية المتطرفة الداعية إلى تجاوز إيجابية الاندماج الوطني والتعايش السلمي «الذي انسجمت معه أحوال عموم الأقليات، سواءً كانت إسلامية أو غيرها، عبر سنين طويلة» إلى «الحمل على الانصهار والذوبان الكامل، والدعوة إلى طمس الهوية وإلغاء الخصوصية، وإشاعة الكراهية والكتابات والخطابات والنداءات والبيانات التي يصدرها بعض المحسوبين على العلم والدعوة من حين لآخر». وشدد البيان الختامي على أن الإسلام، في أدبه وحكمته ورحابته وسمته الرفيع في إيضاح وجهة النظر، اعتبر تلك الأخطاء الفادحة من أخطر أدوات الإثارة والتهييج وفي طليعة المواد الأولية لصناعة التطرف المفضي إلى حلقات عنفه وإرهابه. ولفت البيان إلى وجوب الحذر من الوقوع في مزالق الغرور في سياق أهازيج الإثارة والحماسة وخداع النفس بها. وحذر، في الوقت نفسه، من إسقاط التحولات الخطرة للظروف النفسية والاجتماعية على الدين، والتباس عددٍ من المصطلحات والمفاهيم الإسلامية وعدم التصدي لها ببيانٍ إسلامي واضح وكاشف، لا سيما المجازفات والأوهام الخطرة في معاني الجهاد والحاكمية والجاهلية ومفهوم الدولة ودار الإسلام ودار الحرب وغيرها. ودعا البيان المجمع الفقهي، في رابطة العالم الإسلامي، إلى التصدي لهذا الأمر. وعدّ المواجهة الفكرية للتطرف والإرهاب المرتكزَ الرئيس لاجتثاثهما من جذورهما. واعتبر أن المواجهات العسكرية، مع أهميتها البالغة في درء خطر الإرهاب، لا تحسم المعركة النهائية معه، واصفاً كيان الإرهاب ب «عالم افتراضي واسع وليس نطاقاً جغرافياً محدوداً»، ملاحظاً أن «كثيراً من عملياته الإجرامية تتم بتمويلات زهيدة يسهُل الحصول عليها، ومع ذلك فما يساعد في السيطرة على موارده مراقبة التحويلات المالية مع تقليص التبادل المالي التقليدي عن طريق خيارات التبادل بالبدائل المصرفية الحديثة».