تحتوي مكتبتي الخاصَّة على مئات من الرسائل العلميَّة للماجستير والدكتوراه في مختلف الفروع الجغرافيَّة لباحثين سعوديِّين، وتكاد أن تكونَ مناصفةً بين فترتين تنتهي أولاهما عام 1995م لتبدأ الثانية بعدها، استفدتُ كثيراً من معظمها في دراساتي العليا وفي أبحاثي العلميَّة اللاحقة؛ ممَّا يعني اطِّلاعي عليها اطِّلاعاً معمَّقاً أحسبه أوصلني لتقويمها في ضوء مناهج البحث العلميِّ وأدواته ووسائله وأساليبه تقويماً علميّاً دقيقاً، وبعودتي لملخَّصاتي التقويميَّة عنها بهدف إعداد بحثٍ علميٍّ عن مستوى الدراسات والأبحاث الجغرافيَّة العلميَّة في الوطن توصَّلتُ لملحوظات إيجابيَّة وسلبيَّة استقصيتُ عواملها المؤثِّرة بظهورها والمنعكسة من مستوياتها العلميَّة وقدرات منجزيها ومهاراتهم البحثيَّة بالآتي: * كشفتْ معظمُ الدراسات العلميَّة المنجزة قبل عام 1995م عن معاناة الباحثين من حيثُ مدى وفرة المصادر والمراجع من كتبٍ ودراساتٍ علميَّة وتقارير فنِّيَّة وعلميَّة وإحصاءات حكوميَّة وخرائط تفصيليَّة، تمثَّلت ببذلهم جهوداً وأوقاتاً لاستقصائها وللبحث عنها في المكتبات العامَّة ومكتبات الوزارات والجامعات وبالتَّواصل مع منجزيها ومع المسؤولين عنها وبمخاطبتهم كتابيّاً للحصول عليها، كما تطلَّبتْ من الباحثين أموالاً طائلة لسفريَّاتٍ علميَّة ولرحلات ميدانيَّة في مناطق دراساتهم ولتصوير تلك المصادر والمراجع في زمنٍ يكلِّفُ تصويرُ الصفحة الواحدة الباحثَ ريالاً واحداً، هذا إذا لم يضطر لقراءتها وكتابة ما يحتاجه منها بخطِّ يده في أماكن حفظها، فيما الدراساتُ العلميَّة فيما بعد عام 1995م أنجزتْ بمعاناة أخفّ كثيراً، فالمصادر والمراجع العلميَّة أوفر، والتَّحرِّي عنها واستقصاؤها أيسر، والحصولُ عليها من مواقع الشبكة العنكبوتيَّة كاملةً أو بملخصاتها أسهلُ، فتصويرها يمكن أن ينجزَه الباحث في مكتبته الخاصَّة وبتكاليفَ زهيدةٍ جداً وقد يستغني عن ذلك بنسخها فتخزينها في حاسوبه الشخصيِّ فلا تتطلَّب منه سفريَّاتٍ علميَّة ومخاطباتٍ كتابيَّة لمنجزيها. * بعد تحديدِ الباحثين لمشكلاتِ دراساتهم وصياغتها وبعد أن يتقدَّموا بخطواتهم الإجرائيَّة بتحديد مناهجِها وأدواتِ جمع بياناتها ومعلوماتها ويطبِّقوها يبدأون بمرحلة كتابة دراساتهم، وقد تبيَّنتُ بالمقارنة بين الدراسات المنجزة أنَّ معاناة الباحثين خلال مرحلة ما قبل عام 1995م أصعب كثيراً من معاناتهم بعدها، ففي حين كتبَ السابقون فصول دراساتهم بأقلام الرصاص كمسوَّدات أوليَّة ومن ثمَّ أعادوا كتابتها كتابةً نهائيَّة لتقديمها لناسخيها على الآلة الكاتبة وما يتطلَّبه ذلك من وقتٍ وجهد ومعاناة وصلتْ إلى أنَّ الأصابع الوسطى لأيديهم حيثُ تتكئُ عليها أقلام الرصاص تتجرَّح لطول الضغط عليها، فإنَّ اللاحقين كتبوا فصول دراساتهم بحاسوباتهم الشخصيَّة وراجعوها بالتقديم والتأخير والتصحيح دون الحاجة لإعادة كتابتها كسابقيهم؛ حيثُ كانوا يراجعون كتابةَ نسَّاخ الآلة فصلاً فصلاً ويعيدونها إليهم للتصحيح فإنَّ اللاحقين يراجعون فصول دراساتهم بأنفسهم، وبذلك فجهودهم ومعاناتهم أقلُّ كثيراً، وفي حين رسم الباحثون السابقون خرائط دراساتهم وأشكالها بأيديهم أو بمساعدة رسَّامين محترفين وما يتطلَّبه ذلك من المال والمراجعة والتصحيح، فإنَّ اللاحقين يرسمونها بأنفسهم مستعينين ببرامج حاسوبيَّة تسهِّل عليهم إتقانها ومراجعتها وتصحيحها فجهودهم ومعاناتهم أقلُّ كثيراً. * يسيرُ البحثُ المتميِّز وفق خطوات المنهج العلميِّ ومراحله بإتقان، ويُكتبُ بأسلوبٍ علميٍّ واضح مترابط منساب دون استرسال، وبلغة سليمةٍ في قواعدها النحويَّة والإملائيَّة، وبإخراجٍ حسن يبرز قيمته العلميَّة وأهميَّته البحثيَّة، وإلَّا حكم عليه صاحبُه بالفشل بتضمينه رسوماً بيانيَّة وخرائط غير دقيقة، أو نُظِّم بغير ما اعتاده الباحثون؛ لذلكَ فالباحثُ تلزمه مهاراتٌ متعدِّدة لينجز بحثاً متميِّزاً، مهاراتٌ علميَّة ومهارات فنيَّة لإعداد خرائطه وأشكاله وجداول بياناته ولتطبيقه الأساليب الكميَّة، ولتنسيق كتابة موضوعاته وعناوينه الرئيسة والفرعيَّة، ولترتيبه لصفحاته التمهيديَّة فمقدِّمته وفصوله الإجرائيَّة والتطبيقيَّة وخاتمته فمراجعه ومصادره وملاحقه ومستخلصاته وترقيمه لجداوله وخرائطه وتفريعاته ومراعاته لتناسب فصوله ومباحثه طولاً، ولقواعد توثيقه لاقتباساته ولمصادره ومراجعه، وفي أسلوب كتابته وعرضه؛ إذْ لا يكفي جمع البيانات وتحليلها تحليلاً دقيقاً لتميُّز البحث، فجوانبه الفنيَّة تسهم في تفهُّم القارئ له والإفادة منه. * ولا شكَّ في أنَّ الحاسوبَ يساعد على كثير من تلك المهارات إضافة إلى إمكاناته في الجوانب العلميَّة، لذلك فإنَّ على الباحث أن يجيدَ استخدامَه لينجز بحثَه كتابة ورسماً، فالباحث الذي يكتب بحثَه بنفسه ويرسم خرائطه سيَلْحَظُ كلَّ الاعتبارات العلميَّة والفنيَّة والأسلوبيَّة، وعليه الأخذ باعتباره عند كتابة بحثِّه ما استقرَّ عليه الباحثون من قواعد في هذا المجال من حيث ورق الكتابة وخطُّ الطباعة وهوامش الصفحات، والعناوين الرئيسة والجانبيَّة والفقرات، وهذه وإن حسبت ميِّزة للدراسات اللاحقة عن السابقة إلاَّ أنَّها لم تظهر لدى معظم الباحثين اللاحقين. ومع اختلافات الباحثين السابقين لعام 1995م واللاحقين له بمعاناتهم البحثيَّة التي جاءت أخفَّ كثيراً لصالح اللاحقين، وبمهاراتهم العلميَّة والبحثيَّة التي يُفترض مجيؤها لصالح اللاحقين لينجزوا دراساتٍ أفضل، إلَّا أنَّها لم تعكس تفوُّقاً بل عكستْ ضعفاً في المستويات العلميَّة والبحثيَّة لمعظم دراسات اللاحقين، فهل لظهور مسارات الشهادات العليا المزوَّرة المزَّيفة تأثيرٌ أضعفَ هممَ اللاحقين وجهودَهم فانعكس ذلك على مستويات دراساتهم؟ وهل ستنهض الرؤية 2030 بمستويات جامعاتنا وبالبحث العلميِّ موقفةً هذا الانحدار بمستويات الدراسات العلميَّة الإنسانيَّة الميدانيَّة والعلميَّة التطبيقيَّة؟ فكلُّها ضرورية للنهضة والتنمية ولتنويع مصادر الدخل ومعالجة مشكلاتنا، فالأولى منها ضروريَّة لدراسة مشكلاتنا التنمويَّة والاجتماعيَّة والتربويَّة والاقتصاديَّة، والثانية لمواكبة التقدُّم التكنولوجيِّ والصناعيِّ والصحيِّ العالميِّ، وكلُّها تتطلب بيئاتٍ بحثيَّة جادَّة وإمكانات ماليَّة كافية ترقى بالوطن في قائمة دول العالم باعتماداته الماليَّة للبحث العلميِّ، متزامنةً مع تحرير التعليم من التلقين لينفتح فكريّاً فيبني عقولاً مغامرة متطلِّعة طموحة باحثة عن المعرفة بجدِّية وبإخلاص، فهل ستحقِّق الرؤية 2030 نقلةً من واقعنا المعاصر لفضاءات أوسع ولآفاقٍ أرحب؟!!