استكمالا للجزء الأول من المقال وتذكيرا بالإشارة إلى أساس المقال المثبت سابقا، نضع سويا هنا بعض المعالم حول فهم الصحابة للإسلام وتعاطيهم مع مفاهيمه لتجيب على الأسئلة الكبرى المتعلقة بتاريخ المسلمين خاصة في القرن الأول. تجدر الإشارة ابتداء أن الإجابة على السؤال عنوان المقال لا تزال غير كافية وما تعلمناه في السير وقرأناه في المناهج هو الممارسة الإيمانية لكن كيف تم هذا التحويل بالقرآن وذلك بغية الخروج بالمنهج لمقاربة استشكالات معاصرة، يظل سؤالا منقوص الإجابة. وهنا بعض المحاور التي تتطلب دراسات ومراجعات معمقة: – كيف حصل التحول بالإنسان العربي (الصحابي) من المطلق الفردي إلى المنهج الرسالي؟ كان العربي بحكم فرديته لا ينظر للناظم الموضوعي للأشياء بل يميل حين يصف إلى أن يسهب ويعدد وينوع ويدق ويستدق، وبتأثير المجال نشأت (العقلية الإحيائية) فجاء عنده الغيب على شكل آلهة متعددة مرتبطة بالقبيلة وحدودها. كيف فهم الصحابة أنه ليس ثمة علاقة توليدية بين القرآن والفكر العربي؟ وكيف انتظم الوجود في حسهم ضمن ناظم واحد؟ وكيف أصبحت الكثرة والتنوع مظهرا للوحدة؟ لقد آل بهم ذلك إلى الانتقال من الفردية إلى الكونية ومن سطوح الفكر إلى أعماقه ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن ظواهر الموجودات إلى حقائقها؟ لذا جاءت علاقتهم بالقرآن كوعي يستمر مع البشرية إلى الأمام. – كيف فهم الصحابة الاندماج بين الرحمة الإلهية والخير العربي حين حال الله بينهم وبين مصادر العذاب القاطع متى ما كذبوا بالآيات مثل الأولين؟ هذا الاندماج كان مقدمة لأمر خطير وهو أن الرسالة المحمدية لم تكن خاصة بالعرب بل هم في وضع الطليعة لأمم أخرى. لقد فهموا جيدا معنى (أخرجت للناس). ارتبط ذلك بواحدة من أهم المهمات بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو (الفتح الإسلامي) مدركين إشارات الرسول في البعد الجغرافي في غزوة الخندق وغيرها. لقد قادهم الله ليرثوا حضارات ال 24 نبيا المذكورين في القرآن وليواصلوا حوار أنبيائهم معهم ضمن المنهج الكلي. لقد فهم الصحابة أن المهمة الإلهية ليست عربية بالمعنى السلالي وأن الفتح ليس دينيا فقط وإلا لانتهى بترجمة القرآن إلى تلك اللغات بل أبقى لتلك الحضارات العريقة أن تنفذ إلى المعاني المنهجية الكلية بتحويلها هي إلى اللسان العربي وليس إلى اللغة العربية فقط. – كيف يمكن لنا نحن معشر المعاصرين أن ننجو من إشكالات مفترضة حول أن فهم الصحابة والسلف الصالح هو الفهم الأمثل لاعتبارات معروفة وأن ما يطرأ من بعد يرد إلى شبيهه بالقياس؟ إن مقاربة هذا الأمر الشائك لا تتم دون فهم القرآن وفهم علاقة الصحابة بالقرآن. كانت علاقتهم بحكمته أن يمارسوها في مواضعها لا أن يمنهجوها بشكلها الكلي وأن محاولة فهم هذا السلوك سيقود إلى وعي بالقرآن في إطار منهجه الكلي على نحو كوني شامل بصفته المعادل الموضوعي للحركة الكونية ودلالالتها. لقد تكون الصحابة تحت رعاية النبي الكريم بالمزج بين الإرشاد الخبري والتجربة العملية، وترك الله الأمر لاستعداداتهم في المضي إلى المنهج الكلي. إن مراجعة حكمة إعادة ترتيب الآيات من قبل الرسول عليه السلام على غير مواضع النزول ليعطي الكتاب وحدته العضوية المنهجية الكاملة التي تقابل أي منهجية حضارية بشرية مقبلة.. هذا الأمر يستدعي كثيرا من التفكير عند تأمل فهم الصحابة للإسلام وانطلاقهم فيما بعد وانتشاره. ختاما.. إن الحضارة الغربية تصنع الإنسان (العلمي) فيما يصنع الإسلام الإنسان (الكوني)، وأن الأزمة الحقيقية للمسلم المعاصر على مستوى التصور والوجود أنه ارتد عن الكونية إلى الذاتية الفردية المنحصرة بأفكار وكيانات ضيقة.