في كتابه الصادر مؤخراً يستكمل الدكتور جلال أمين حكايا عن سيرته الشخصية، والناس الذين عايشهم عن قرب، وتأثر بهم سواءً سلباً أم إيجاباً، ويقر في مقدمة الكتاب الذي وضع له عنواناً لطيفاً هو «مكتوب على الجبين»، يقر بأنه بعد هذا العمر، وهذه السنين الطويلة التي عاشها مازال يرى في كل شخصية من الشخصيات التي عايشها لغزاً من الألغاز التي يصعب تفسيرها، أو فهمها مهما حاول المرء أن يفعل، وأن الخير والشر في كل إنسان متداخلان تداخلاً عجيباً يصعب الفصل بينهما إلا في الروايات والأفلام. يفتتح جلال أمين الكتاب بفصل عن حياة والده الدكتور أحمد أمين المفكر الإسلامي الشهير صاحب «فجر الإسلام»، ويحكي كيف أن أكثر ما يتذكره عن والده هو تلك الأوقات السعيدة التي كان يعود إليهم في البيت ليحكي لهم قصةً، أو موقفاً حدث معه في الجامعة، أو في أي مكان آخر من أماكن عمله المتعددة، وكيف وقف أبوه متمسكاً بمبادئه منتصراً لحسِّه الأخلاقي في وجه الجميع دون تقدير للعواقب أياً كانت، من تلك المواقف، موقف حدث لوالده وهو يشغل منصب عميد كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول التي تحول اسمها فيما بعد إلى جامعة القاهرة، يقول: إن رئيس الجامعة طلب الاجتماع بأعضاء المجلس، وطرح عليهم رغبته في منح الدكتوراة الفخرية لشخصية أجنبية، وأخبرهم صراحة أن هذا نتيجة أوامر عليا وينبغي عليهم تنفيذها. أيَّد عدد قليل من الحضور رأي الرئيس، ولزم الباقون الصمت، لكن أحمد أمين لم يصمت، وتكلم بأن هذا الشخص لا يستحق هذا التكريم، وأن هناك مَنْ هو أولى به منه، وأصر على أن يتم ترشيح الشخص الأولى بالدرجة من هذا الذي جاء بأوامر عليا وهو لا يستحق، هنا تحدث الصامتون وأيَّدوا رأي أحمد أمين، وأسقط في يد رئيس المجلس الذي اضطر إلى الرضوخ لرأي الأغلبية، وعندما علم وزير المعارف بالخبر استدعى أحمد أمين ليوجِّه له اللوم على ما فعل، وعلى الإحراج الذي تسبب فيه للجهات العليا، لكن أحمد أمين لم يعتذر، ولم يتراجع، بل اكتفى بقوله: «أظن أن معالي الوزير يسره أن يعرف أن رجاله في الجامعة يدافعون عما يعتقدون أنه الحق». هنا أسقط في يد الوزير وأنهى المقابلة. ويضيف الرجل معلِّقاً، وهو يحكي القصة لأولاده، أنه وجد من خلال تجاربه أن معظم الناس مستعدون للدفاع عن الحق، وأن أقلية فقط هم المستعدون للدفاع عن الباطل، لكن أكثر الناس لا يجدون في أنفسهم الشجاعة للجهر بما يعتقدون أنه الحق فإذا وُجِدَ منهم مَنْ تجرأ على الجهر به اتبعوه. هذه القصة على قِدمها لكنها ذات دلالات رمزية مهمة لكل زمان، خصوصاً زمننا الحاضر. تخيَّل مدى التوتر والضغط الذي واجهه الرجل وقتها، تخيَّل رهبة تحدي رغبة الجهات العليا ومواجهة رئيس الجامعة والوزير برأي يخالفهم، ويخطئ قرارهم جميعاً، والثبات والإصرار على عدم التراجع عما يراه حقاً رغم أنه يغامر بمستقبله ومنصبه وأشياء أخرى لا يعلمها إلا الله، ما هو المكسب الذي كان ينتظره في المقابل؟ لا شيءَ مادياً أو ملموساً، لا شيء سوى انتصاره لمبادئه وحسِّه الأخلاقي، لا شيء سوى عودته إلى بيته فخوراً راضياً عن نفسه أمام أبنائه ليحدثهم بأن أباهم لم يخذلهم أمام موقف رغبة أو رهبة، وأنه كان ومازال قدوتهم التي يفخرون بها، ثم يتركهم ليخلد إلى النوم مرتاح الضمير. تأمل ما الذي بقي من هذه القصة؟ ذهب الوزير، وذهب الرئيس، وذهبت المناصب والوظائف والامتيازات، لم تبقَ إلا سطور قليلة في التاريخ، وذكريات في وجدان الناس لتتذكر وتروي قصة مَنْ جبن وتخاذل، ومَنْ وقف مع الحق وصدع به. هنا يظهر الرابح الحقيقي والخاسر الأكبر. كلنا يتعرض إلى مواقف مشابهة تتفاوت في حجم ما تقتضيه من مواجهة وثبات على الحق، لكن تذكر دائماً أن المقياس الحقيقي لصحة قرارك ليس مدى دبلوماسيته ولا محدودية الخسائر ووفرة المكاسب، ولا مدى رضا الناس، أو سخطهم عليك، تذكر أن تستفتي قلبك وضميرك، وأن تتجرد للحظات من كل تلك المؤثرات، ذكِّر نفسك بأنها مؤقتة وعابرة، وأن ما يبقى فقط هو مقياس الحق والباطل، العدل والظلم، واختر لنفسك الجانب الذي ترضى الوقوف فيه، تذكر أنك في حاجة إلى قصة تحكيها لأبنائك عندما يكبرون قليلاً، وأن القصة الوحيدة التي ترضيهم هي ما زرعته أنت فيهم عن الحق الذي لابد أن ينتصر. ربما تعاني قليلاً، وربما تعاني كثيراً، لكن تذكر بأن مَنْ وقف مع الحق لا يقف وحيداً أبداً، وأن مَنْ ينصرون الباطل صغارٌ مهما حاولوا أن يبدو خلاف ذلك.