تجُول فاطمة بنظراتها الهلِعة على جيرانها تسألهم عن زوجها وتردِّد باكيةً «خذوني إليه». وقبل وقتٍ قصير؛ وقف الزوج فرِحاً أمام منزله في منبج التابعة لمحافظة حلب شمالي سوريا، لكنه لم يكد يفتح الباب حتى انفجر لغمٌ من مخلَّفات تنظيم «داعش» الإرهابي. ويطغى الخوفُ على فرحة السكان بالعودة إلى مدينتهم التي خرج آخر عناصر «داعش» منها قبل يومين فقط. لكن المسلحين المتطرفين وضعوا قبل طردهم كمياتٍ كبيرةٍ من الألغام في كل مكان، بما في ذلك المنازل والشوارع والمستشفيات المغلقة. وفور دخول فريق وكالة «فرانس برس» إلى المدينة؛ دوَّى صوت انفجارٍ وتصاعد الدخان في السماء، ليتبين لاحقاً أن لغماً انفجر في منزل محمد وفاطمة نالو. وبدت علامات الصدمة واضحة على وجه المرأة الأربعينية وهي تجول بين الجيران تسألهم عن حال زوجها محمد، وتمسح دموعها بأطراف شالِها الأسود، وتقول لمن حولها «الله يوفقكم خذوني إلى زوجي، ليأخذني أحد إليه». وتروي فاطمة «توسَّل الناس إلى زوجي ألا يفتح الباب وأن يصبر قليلاً، لكنه كان متعجلاً ليتأكد من أنه لم يتم نهب المنزل»، وما هي إلا دقائق حتى انفجر في وجهه لغم كان عناصر من «داعش» وضعوه عند الباب. أصيب محمد في وجهه وقدميه، واضطر جيرانه إلى نقله إلى أحد المستشفيات في مدينة كوباني «عين العرب» لأن كافة مشافي مدينتهم مغلقة. ومثل محمد وفاطمة؛ بدا عديد من سكان منبج متلهفين لتفقد منازلهم. لكنهم لم يجدوا سوى الدمار والألغام. وخلال جولة تفقدية؛ سمع مراسل «فرانس برس» دوي 3 تفجيرات جراء الألغام، فيما انتشرت على جدران البنايات كتاباتٌ باللون الأحمر «انتبه ألغام» و»منبج محررة». ويُلخِّص حسن الحسين، شابٌ في العشرينيات من عمره، حالَ المدينة قائلاً «كلما تفتح باباً ينفجر لغم، يمشي طفل في الشارع وينفجر لغم، عائلة تعود إلى منزلها تجده ملغماً». ويؤكد الشاب «ابن عمي قُتِلَ البارحة جرَّاء التفخيخ، البلد كلها مفخخة، فخخوا البلد وذهبوا». وأطلق الحسين نداءً للمعنيين «أزيلوا التفخيخ والألغام»؛ إذ يكفي «عدم وجود خبز ومياه وطحين، كما أن كل المشافي مغلقة». وبعد معارك استمرت أكثر من شهرين بمساندة ضربات جوية أمريكية؛ سيطر فصيل «قوات سوريا الديمقراطية» على المدينة في ال 6 من أغسطس قبل أن يطرد منها الجمعة الماضية آخر المسلحين المتطرفين، ما شكل هزيمة كبرى ل «داعش». وعلى مدخل المدينة؛ أقام مقاتلو «قوات سوريا الديمقراطية» الحواجزَ للتدقيق في هويات العائدين إلى منازلهم. وعاين مراسل «فرانس برس» أطفالاً على متن شاحنةٍ كبيرةٍ تحمل الماشية، فيما كان آخرون يرفعون شارات النصر بين حاجياتهم من مرتَبات وحقائب وأكياس. وفي الشوارع وأمام ما تبقَّى من منازل وأبنية ومحلات؛ يعمل السكان على إزالة ما خلَّفه القصف والمعارك من حطامٍ في مدينةٍ باتت مدمرة. وفي أحد أحياء وسط منبج؛ تدخل نجوى (41 عاماً) ومعها ابنتها إلى منزلها، وتقف في غرفةٍ جدرانها سوداء اللون امتلأت بالحطام والحجارة، وتقول «هذه غرفتي، أتى عناصر داعش وأحرقوا كل شيء». تنظر السيدة إلى الجدران المحطَّمة حولها دون أن تتجرأ على الدخول إلى الغرفة المجاورة خوفاً من الألغام، وتوضِّح «لم نر الخير منذ دخولهم إلى مناطقنا، ثلاث سنوات تبدو وكأنها 30 سنة». وبالقرب من والدتها؛ تروي أماني ذات ال 7 سنوات «لم يسمحوا لنا بدخول المدرسة (…) كانوا يضربون من يذهب منا إلى المدرسة ويتهموننا بأننا كفار». كما «لم يسمحوا لنا بمشاهدة التلفزيون»، تضيف أماني قبل أن تغرق في البكاء وتختبئ خلف والدتها.