أحدهم يعمل موظف استقبالٍ في مؤسسة تعليم لغات، وآخرون يتوزعون بين نادلٍ في مطعم أو بائعٍ في متجر حلوى أو حلَّاق. إنهم شبَّانٌ سوريون أجبرهم اللجوء على التغاضي عن أحلامهم الكبيرة في بلادهم والاكتفاء في تركيا بما يُبعِد عنهم شبح الحاجة. ورغم درجة الحرارة المرتفعة والصيام خلال شهر رمضان؛ فإن المحلات والحوانيت الصغيرة في حي الفاتح في إسطنبول تعجُّ بالحركة خاصةً من العرب من مختلف الجنسيات. وتتكدس البضاعة السورية داخل المحلات وأمامها. وبإمكان المتسوِّق شراء الصابون القادم من حلب والحلويات الدمشقية وكل أنواع الفستق والمكسرات. ويقوم رفيق (27 عاماً) بتعبئة كيلوغرام من البقلاوة في علبة كرتونية كُتِبَ عليها «حلويات الشام». ويروي هذا الشاب بحماسٍ كم كان يعشق عمله في الحفر على الخشب «أنا وضعت شعار المحل وشكل العلب». ويتابع بفخرٍ وحسرة «لقد كافحت كثيراً لأكمِل التعليم الذي أردته، كنت شغوفاً بالفن والحفر اليدوي». لكن الأحداث الدامية التي ضربت سوريا ابتداءً من عام 2011 غيَّرت حياته، ففضَّل الهروب إلى تركيا على الخدمة كاحتياطي في صفوف جيش نظام بشار الأسد. وفي دمشق حيث عاش رفيق؛ لم تكن حياته في خطر، وهو يقول في هذا الصدد «أنا لم أهرب من القنابل بل من إمكانية أن أكون أنا من يُلقي القنابل». وعلى مقربةٍ من متجر الحلوى؛ كان أحمد النادل في مطعمٍ يأخذ قسطاً من الراحة قبل موعد الإفطار الرمضاني وبدء تدفُّق الزبائن. ووصل هذا الشاب إلى إسطنبول قبل عامين وهو في ال 24 من العمر. ويقول أحمد بلهجة حزينة «ضحَّى أهلي بكثير من أجل أن يؤمِّنوا تعليمي المحاسبة، وها أنا اليوم بعيداً عنهم في بلد لا أعرف لغته وأعمل كل ما يُطلَب مني في هذا المطعم» و»لكنني أفضِّل ألا أشتكي، كان الخيار المطروح بالنسبة لي بين الحرب والمنفى فاخترت المنفى من دون تردد». ويعمل أحمد كل أيام الأسبوع من الصباح حتى المساء مقابل 900 ليرة تركية أي ما يوازي 300 يورو شهريّاً. ولا بد له من تقاسُم الشقة التي يعيش فيها مع 3 سوريين آخرين لا يعرفهم لكي يتمكن من دفع إيجارها البالغ 1200 ليرة تركية أي حوالي 400 يورو. وتستقبل تركيا حالياً 2.7 مليون سوري يعيش منهم نحو 350 ألفاً في إسطنبول. وكشف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن عمل حكومته على مشروعٍ يتيح للاجئين السوريين الحصول على الجنسية. ويعيش نحو عُشر هؤلاء في 10 مخيماتٍ للاجئين. وتقول نور (26 عاماً) التي وصلت قبل أشهر إلى إسطنبول قادمةً من مطار بيروت. «أعرف تماماً بأنني أكثر حظّاً من كثيرين غيري من السوريين الذين يعيشون في الخيم أو ينامون في العراء، لكن هذا لا يعني أنني سعيدة هنا». ولا توضح السيدة الشابة كثيراً الأسباب التي دفعتها إلى ترك بلادها والتخلي عن «العائلة والعمل والحبيب»، مكتفيةً بالقول «الأسباب أيديولوجية». وهي تعمل موظفة استقبال في مؤسسة لغات أسسها أحد مواطنيها، وتشرح «أشعر هنا بأنني قد أكون مفيدة للسوريين، وبما أن بلدنا لم يعد قادراً على تأمين أي شيء لنا لا بد من التأقلم مع الأتراك الذين استقبلونا وتعلُّم لغتهم». وتتابع «طلابنا من الشبان السوريين بشكل خاص، أعمارهم بين العشرين والثلاثين وهم مندفعون، وخلال 6 أشهر فقط يكونون قادرين على تدبر أمورهم اليومية بالتركية». وتعلَّم الحلاق السوري ماهر (29 عاماً) التركية على الإنترنت، وقال «لم أدفع مالاً وعندما يكون لديك الحافز تتعلم أي شيء». وتذكر حياته في دمشق موضحاً «كان لديّ صالون حلاقة، في حين أنني هنا أعمل أجيراً، لم يكن هذا المستقبل الذي أحلم به، إلا أنني آمل التمكن من العودة يوماً إلى بلدي». لكن رفيق البائع في متجر الحلوى لم يعد يؤمن بالعودة إلى سوريا، واستدل بعدم تمكن الفلسطينيين من العودة إلى بلادهم منذ نكبة 1948 رغم تطلعهم آنذاك إلى العودة إليها خلال أيام. وختم رفيق قائلاً وهو يسلِّم سيدةً علبة حلوى «لم يعد لدينا بلد».