يمتح الشاعر الشعبي – في منطقة الباحة – الصور والتعابير والرؤى والجماليات من معين الموروث الاجتماعي والبيئة الجغرافية، فتأتي القصيدة مخضبة بشميم الكادي ونفح الريحان وأريج الأزهار، مؤطرة بخلاصة ما اختزله من خبرات وتجارب اجتماعية تتفق وعادات وتقاليد وأعراف المحيطين به، وتصل القصيدة إلى المتذوق بأشكال عدة، فأحيانا تكون غامضة جدا يصعب فك رموزها أو حتى فهم معانيها من جراء استخدام التراكيب اللفظية الصعبة والمعاني المبهمة، وذلك التكلف يراه بعضهم بأنه ميزة يتفرد بها بعض الشعراء عند احتدام المواقف وإعلان التحدي في المبارزة الشعرية في العرضة، ومثل هذا النوع من القصائد يتميز بها الشاعر عبدالله الزرقوي، وفي أحايين كثيرة تأتي القصيدة الشعبية سلسة سهلة الفهم كينبوع ماء نمير، خاصة إذا لامست جانبا مهما في حياتهم الاجتماعية، فتصبح كرسالة إعلامية تتناقلها الركبان من أجل العظة والعبرة والحكمة والنصح والفائدة، وبطبيعة الحال في كلتا الحالتين تظل القصيدة الشعبية هي الهاجس المؤرق والجميل بل هي التاريخ والجغرافيا، لكونها إفرازا حقيقيا عن الواقع الحياتي الذي يعيشه المجتمع دونما تزويق أو تنميق، وتتضمن أسماء الأودية والجبال الشهيرة والقرى وأنواع المحاصيل الزراعية كالموز واللوز، الليمون، التمر، الريحان، التفاح والعسل. فعندما يرتفع صوت الزير ليملأ صداه جنبات الأودية والجبال ينتصب الشاعر الشعبي كشجرة عرعر في موقف رجولي شجاع ليندلق الشعر من حنجرته، معبرا عن أفراح وأتراح القبيلة في لغة شعرية قوية ومؤثرة يراعي جزالة الألفاظ وقوة المعاني وروعة الجناس بين الرد والبدع في منظومة دقيقة كعقد اللؤلؤ، ومن البارزين في هذا المجال جمعان البراق، وحين يهمي المساء بعباءته المعتمة تنسدل القصيدة الغزلية في القرية الباحية، سواء في السراة أم تهامة أم البادية كانسدال أشعة القمر الفضية من بين السحب الكثيفة، لتضفي جوا شاعريا خلاقا، فتكون القصيدة جمرة غضى تزيد من دفء الليالي الشتوية ومن وهج الأمسيات فتسري بين المسارب الضيقة لتدفئ أوصال القرية كما تسري أيضا بين أضلاع العشاق لتسكن القلوب المترعة بالشوق والشجن. وتظل القصيدة هي اللحن الشجي الذي يهز شغاف القلوب، وهي الموسيقى التي تشنف الآذان، وهي النبض العارم، والشاعر ابن جبران أحد المتفردين في هذا النوع. ويعد الشاعر الشعبي إفرازا لثقافة وهموم وأوجاع وتطلعات وأحلام مجتمعه، ولكن ثمة سؤال يطفح على السطح عن تباين الجماليات بين شاعر وآخر بل بين قصيدة وأخرى لنفس الشاعر، ويعود ذلك – من وجهة نظري – لمصداقية المواقف، سواء كان اجتماعيا أو عاطفيا، وأقرب القصائد الشعبية إلى الوجدان التي تهز القلوب تلك القصائد الغزلية، لأنها تلامس أحاسيس ومشاعر واختلاجات الشاعر فيتدفق نهر شعره بنبض راعف، فتصل القصيدة وقد اكتمل بناؤها بجماليات ورؤى فنية وأشكال تصويرية آسرة. ويأتي الشاعر أحمد بن جبران كأبرز شاعر غزل في منطقة الباحة، حيث البيئة الاجتماعية والجغرافية ألهبت عاطفته فسكب رحيق قصائده عطرا ونتوقف أمام قصيدته: أزفر لمن خذ له من الريحان الأخضر ولباب المحلب أكثر واستاد مالبرك القطيف وعذق كادي راعي الزين الوكادي مليح الخدين والخصر السهيف راعي الوجه النظيف وإلى التهمنا مدت يمينه بفنجال ظلا عنا النوم ينجال والشربه من كفه من الما الزلالي زادت في عمري وحالي يارب تجبر بينا وأستر وثبنا. الشاعر مكبل بلواعج الحب، أما الحسناء ذات الجمال الأخاذ التي زينت نفسها بأنواع من النباتات العطرية الريحان والبرك والكادي، فهي ارتباط جمالي بين مليحة الخدين ذات الخصر النحيل والوجه النضير، لا تأبه الحسناء بالمشبب في حبها لذا يظل الشاعر سهران الليالي يناجي النجوم المتلألئة التي ترمي بأشعتها للعشاق، فيما ينعم الجميع بنوم هادئ لماذا أيها الحب تؤرق عيون المحبين؟ يستدرك الشاعر بأن تلك الشربة الهانئة التي تقدمها حبيبته ستجدد حياته التي أضناها السهر والأرق.