إنَّ الارتقاء بالوعي المجتمعي الشمولي هو، بلاشك، أهمُّ أساس على الإطلاق للارتقاء بواقع التقاعد وحياة المتقاعدين وخدماتِهم في بلادنا المملكة العربيَّة السعودية، فالتطوُّر في هذا المجال المهم، وأي مجال آخر، مرهونٌ بالتصوُّر، فلا يتصور إحداث تغيُّر وتطور حقيقي ومتجذر ومتدرِّج في الواقع إذا لم يَسبقه ويمهِّد له التغييرُ اللازم في عالَم التصور والأفكار، وكثيراً ما انقدحَت شرارة التغيير المجتمعي في أوَّل أمرِه على يد فردٍ واحد، أو أفراد قليلين، وسرعان ما يتبعهم مؤيِّدون آخرون، فيزيدون حتى يصبحوا جماعات ذات أثَر وفائدة ومستقبل. هذه مهمَّة منهجيَّة وتعليميَّة في جوهرها، تنطلق من استشراف وبلورة الصُّورةِ المستقبلية المأمولَة لقضيَّة التقاعد والمتقاعدين، والنُّسخة الأولى لهذه الصُّورة غالباً ما تتكوَّن وتتشكَّل ابتداء في عقول المهتمِّين والمبادرين، وأفضل وأصلَب أساس لها النَّظر واستقراء أفضَل التجارب والأبحاث العالميَّة في هذا السِّياق، والانتقاء والتكييف والتخطيط لتطبيق أفضلها، ولكي نقدِّر حجمَ ونوع العمل اللازم لتحقيق الرُّؤية؛ فلا غنى لنا عن دراسة واقِعِنا وتحليل المفهوم والمنظور الحالي؛ وبهذا ندرِك مقدارَ التحدِّي، وتفاصيل النقلة اللازمة للانتقال من واقعنا نحو الصُّورة المستقبليَّة المأمولة بكلِّ أبعادها. إنَّ الرقي والنُّضج المتجذر للوَعي المجتمعي الشمولي لهذه القضيَّة لن يكون منعزلاً عن المجالات الحياتيَّة الأخرى، والمأمول أن يُنتج زخماً وتيَّاراً متنامياً، ودافعاً مؤثِّراً ومقاوماً، ومآلُه أن يرفَع سقفَ الرغبات والتوقُّعات على كلِّ الأصعدة، ومنها الجوانب التشريعية المساندة للمتقاعدين، والممكنة للصُّورة المستقبلية التي يَرجونها، ويعملون على تَرجمتها وتحقيقِها في حياتهم وواقعهم، وسنحاول هنا اقتراحَ حزمة من التشريعات المسانِدة للمتقاعدين مثالاً وليست حصراً، ولعلَّها تُعرض بعد حين على مجلس الشورى بغرَض دراستها وتعديلها والزِّيادةِ عليها، تمهيداً لاقتراح تشريعها من لَدن مجلس الوزراء. مقترح: أمثلة على حزمةٍ من التشريعات التي نَحتاجها لمساندة المتقاعدين والمتقاعدات في بلادنا: * رعاية كِبار السنِّ في المجتمعات الإنسانيَّة من أهمِّ المؤشرات التي تُقاس بها عظمة الدول والحضارات. * نستمدُّ فهمنا وتطبيقنا لرِعاية كِبار السنِّ من ديننا الإسلامي الحنيف، والإفادة من الحِكمة والتجارب الإنسانيَّة الناجحة. * يوسَّع مفهوم التقاعد ليَشمل كلَّ كبار السنِّ، وربَّات البيوت، وأصحاب الحِرَفِ، والمزارعين؛ بحيث تَكفل الدولة كلَّ كبير في السنِّ، وتخصص له مخصصات ماليَّة من بيت مال المسلمين، أو مصلحة التقاعد. * يُعامَل المتقاعدون والمتقاعدات بصفتهم مواطنين أسوياء، لهم كل حقوقِ الحياة الكريمة على الدَّولة والقِطاع الخاصِّ، بما يضمن سعادتهم وتعايشهم مع المجتمع وكلِّ أنشطته، وعدم عزلتهم. * ليس لأحد كائناً مَنْ كان حقُّ الوصاية الفكريَّة على المتقاعدين، وحجب أصواتهم ورغباتهم، ولهم حقوقٌ في انتخاب مَنْ يمثِّلهم، وعَزْله إذا لم يَخدم تطلُّعاتهم وحاجاتهم. * إن أداء حقوق المتقاعدين بطريقة منظَّمة وكريمة هو الترجمة الحقَّة لتوقيرهم واحترامهم المطلوب شرعاً وعرفاً. * إنشاء المركز السعودي العالمي لأبحاث خدمات المتقاعدين وكِبار السن؛ «انظر التفاصيل في بحثٍ سابق منشور للمؤلِّف له نفس العنوان». * إدراج المتقاعدين والمتقاعدات ضمن الفئات المستهدفة من خدمات كل الوزارات وموازناتها؛ بحيث يُخصَّص جزءٌ مناسب من موازنة ومشاريع كل وزارةٍ لخدمات المتقاعدين؛ إنشاءً وصيانةً وتطويراً، بما يناسب مجالَ عمل وتخصُّص كل وزارة، ويتناغم ويتكامَل مع الجهات الأخرى. * الحرص على أن يكون المتقاعدون والمتقاعدات في بلادنا هدفاً واضحاً وجزءاً مهماً لكلِّ الرُّؤى الوطنيَّة المستقبلية والبرامج التحوليَّة الاستراتيجيَّة، وفي هذا السياق يرجى تفصيل ما يخصهم واستهدافهم في «الرؤية 2030». * إنشاء هيئة رسميَّة خاصَّة وذات صلاحية، تتولى متابعة شؤون المتقاعدين، وهي المرجع الرَّسمي للمتقاعدين، ولهذه الهيئة أعضاء وممثِّلون في كلِّ الوزارات، ويكون المتقاعدون أعضاء فاعلين في مجالس إدارتها. * مساندة ومتابعة وتفعيل دور ومهامِّ جمعيات المتقاعدين بما يضمن مصلحةَ الفئة المستهدفة، ويتحاشى أخطاءَ الماضي وقصوره. * بناء وتجهيز مقرَّات واسعة ومجهَّزة ودائمة لجمعيَّات المتقاعدين والمتقاعدات على نفَقة الدَّولة في كلِّ المدن الكبيرة مع فروع مصغَّرة لها في المدن الصغيرة. * للمتقاعدين والمتقاعدات حقوق على الجهات الحكوميَّة والخاصَّة، ولا تنحصر هذه الحقوق في دَفع المخصصات التقاعديَّة وتوفيرِ الخدمات الصحيَّة، وتتَّسع لتشمل توفير خدمات تعليميَّة وترفيهية واجتماعية، ونقل ومشورة كلِّ متقاعد ومتقاعدة. * المتقاعدون والمتقاعدات لهم حقٌّ على وزارة التعليم والثقافة في مواصلة التعلم. * إنشاء المعهد السعودي لتعليم المتقاعدين الذي ينطلق امتداداً من جامعاتنا ومؤسَّساتنا التعليمية؛ «انظر التفاصيل في بحثٍ سابق منشور للمؤلف بعنوان هذه النقطة». * بناء مَشافٍ خاصَّة تتخصَّص في أمراض الشيخوخة، يعالَج فيها المتقاعدون والمتقاعدات بسهولة ويُسر على نفَقة الدولة. * تجهيز مستشفيات طبِّية متنقلة لزيارة ورِعاية المتقاعدين في منازلهم. * توفير سكَن حكومي مهيَّأ للمتقاعدين الذين لا يَملكون منزلاً، أو ليس لهم مرافق أو أهلون. * للمتقاعدين حقُّ النَّقل الحكومي المخصص والميسر لهم بما يناسِب مستواهم الصحِّي وحاجاتهم الحياتية. * توفير رعاية صحيَّة دورية مساندة للمتقاعدين والمتقاعدات في منازلهم. * تدريب الأهالي المساندين للمتقاعدين على فنون الرِّعاية المتخصصة لكبار السن. * توفِّر الدولة كراسي متحركة يدويَّة أو آلية لتعين وتيسِّر حركة المتقاعدين والمتقاعدات. * تعميد الوزارات والجهات المختصة بجَمع وتنسيق وأرشفة التراث الشَّفهي السعودي المحفوظ في صدور المتقاعدين. * تسهيل كل معاملات المتقاعدين والمتقاعدات الحكوميَّة وخدمتهم في منازلهم. * لكلِّ مواطن ومتقاعد ومتقاعدة أن يعدِّل ويزيد في هذه الحزمة من المقترحات التشريعيَّة المساندة للمتقاعدين. * السفر الطَّويل يبدأ بخطوة واحدة، وما هذه الدِّراسة مع محدوديتها إلَّا خطوة بسيطة، لكنها راسخة ومفضية إلى مستقبل أفضل وأجمَل لكلِّ المتقاعدين في بلادنا الحبيبة.